-
/ عربي / USD
الحياة هي مجموعة من الأزمات المتوالية، والأيام يداولها رب الناس بين الناس؛ ويبتليهم بتحولات السيادة المتعلقة بالناس وبحب المال والوجاهة والتسلّط، فيتأرجح الإنسان من الهزيمة إلى النصر، ومن القوة إلى الضعف، ومن الفقر إلى الغنى، ومن الحضوة إلى الجفاء، والعكس. وهكذا فلا يبقى حال حياة الإنسان مستقرّاً على وتيرة واحدة، فأيامه متنوعة ومتغايرة، فيوم له ويوم عليه، ويوم يسرّه ويوم يضرّه.
ولم يستثن من هذه المعادلة أحد من الناس، منذ أن بدأ الخلق، ومنذ أن حكى لنا التاريخ سيره، وملاحمه، ومغامراته، وعجائبه، ومآثره، وكل تحولاته، وحتى أنبياء الله شملتهم هذه السنّة التاريخية، فصار منهم أولي العزم ومنهم دون ذلك، وصار منهم الصفيّ، ومنهم الأوّاه الحليم، ومنهم الكليم، ومنهم الخليل، والحبيب. فتحولات الإنسان في عمره، من الطفولة إلى الصبا إلى الشباب والكهولة والشيخوخة، هي تعبير عن حياته الاعتبارية في أفق المعنى والمادة، فهذه طبيعة الإنسان: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ). [الروم : 54]
وقال تعالى: (وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلَا يَعْقِلُونَ). [يس : 68]
وقال عز وجل: (إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ). [آل عمران : 140]
أمام هذه السنة الالهية في الخلق، أصبح أهم دور يقوم به الإنسان، هو أن يعدّ العدة، ويسعى جاهداً نحو امتلاك القوةّ، لا لكي يستأسد على الآخرين، ويملك رقاب الناس أو يتحكم في مقدراتهم، بل لكي يتغلب على التحديات ويسخّر الإمكانات في صالح الإنسان. ونتيجة لاختلال الميزان عند الإنسان، فإنه قد يزيد من واقع الأزمة أزمات، لذا كان لابد من قوة الفكر أن تتحرك في اتجاه معالجة الأزمات، وتحويلها إلى مكتسبات.
قال عز وجل: (يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً). [مريم : 12]
وقال جل شأنه: (وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا..). [الأعراف : 145]
إن ما يعرض في هذا الكتاب، هو مواجهة الواقع المأزوم بقوة الفكر، وتفكيك عقلية التأزيم المعشعشة في الأدمغة، وقد اشتمل على معالجات متنوعة في السياسة وصراعاتها، وفي الثقافة والتباساتها، وفي المجتمع وتلوناته، وفي التنمية وتحدياتها.
وأشير إلى أن كافة المعالجات، وحتى التي تناقش قضية خاصة ببلد ما، حرصنا على أن تكون المعالجة فيها من خلال النظر لأصول الأزمة، ومعالجة جذورها، وبيان تداعياتها، وما يجمع هذه المعالجات سواء الثقافية منها، أو العملية الأدائية، والسلوكية أوغير ذلك، هو المعالجة الفكرية، التي ترجع إلى أصول الأفكار، دون الاستغراق في عالم الأشخاص. وهذه المنهجية قد أشرت لها في هذا الكتاب تحت عنوان (المنظار الثقافي ومشكلات الاجتماع والسياسة)، ويعد هذا الكتاب بمجمله هو عملية تطبيقية لتلك المنهجية، ففي الوقت الذي تناولت فيه بعض المشكلات الحساسة والدقيقة، إلا أن منهجية المعالجة لن تكون بذات الحساسية، لأنها تنظر للمعالجة والخروح من واقع الأزمة، فلابد أن تخدم هذه الغاية، وتعزز روح وإرادة الخير.
وتجدر الإشارة إلى أن هذه المقالات قد نشرت في الصحافة العربية في فترات متباعدة، وأسأل الله التوفيق والسداد.
محمود الموسوي
البحرين/ بني جمرة
16/3/2010
قيّم هذا الكتاب
هل استخدمت هذا المنتج من قبل؟
لا توجد أي مراجعات بعد