وهذه "رحلة ينيامين" جلت عن صفحة تأريخية أكدت ما دوَّنه مؤرخونا عن معاملات الأقوام العراقية لمن كان تحت سلطانهم، فقد عاملوهم خير معاملة؛ ولم يكن ما... جاء به هذا الرحالة الفاضل من نظرات ومشاهدات صادقة مقصوراً على المدة التي قام فيها برحلته بل هي إستمرار حالة ترجع إلى زمن...
وهذه "رحلة ينيامين" جلت عن صفحة تأريخية أكدت ما دوَّنه مؤرخونا عن معاملات الأقوام العراقية لمن كان تحت سلطانهم، فقد عاملوهم خير معاملة؛ ولم يكن ما... جاء به هذا الرحالة الفاضل من نظرات ومشاهدات صادقة مقصوراً على المدة التي قام فيها برحلته بل هي إستمرار حالة ترجع إلى زمن الخلفاء الراشدين المؤكدة لوصايا الرسول في أهل الذمة والمعاهدين تقريراً لمنطوق الآية الكريمة الصريحة.
وإذا كانت فصول هذه الرحلة قد عينت الحالة في القرن السادس للهجرة (الثاني عشر للميلاد)، فإنه مما لا شك فيه أن هذه الحالة التي تصفها نتيجة ماض سحيق، وأنها دامت إلى ما بعد ذلك مدة طويلة إلى آخر العهد العباسي على أقل تقدير؛ ويكفي دليلاً على عناية خلفاء بني العباس يأمر أهل الذمة من رعاياهم حرصهم على أن لا يمسهم أحد بسوء.
من ذلك ما ذكره "ابن الفوطي" عن الخليفة "الناصر لدين الله،" من رفض مطالب ناطر "ديوان الجوالي" وهو يومئذ "أبو عبد الله محمد ابن يحيى بن فضلان" المتوفى سنة 631هـ (1234م)، فإنّه رفع رقعة إلى الخليفة يندد بها بأهل الذمة ويعدد ما يتمتعون به من خيرات ومنافع وعظم المكانة التي بلغوها في الدولة، وما كانوا يتنعمون به من حرمة وجاه في مدينة السلام وطلب فيها من الخليفة التحديد منها، فلما وقف الخليفة على رقعة الناظر لم يُعدْ عنها جواباً، أي أنه أهملها ولم يلتفت إلى منطوياتها الحوادث الجامعة، لكمال الدين أبي الفضل عبد الرزاق بن الفوطي البغدادي، لأنّه لم يشأ أن يغير المعتاد المألوف، وهكذا نجد التقاليد ونصوصها تؤكد الحالة المعهودة، ولم يحدث تغيير حتى أواخر العهد العباسي.
إن لما كتبه (ينيامين) عن مشاهداته في رحلته إلى ديار الإسلام في القرن السادس للهجرة قيمة تأريخية كبرى، فهي معدودة من أقدم الرحلات المعروفة، جاب مؤلفها الغرب والشرق ودوّن ما شاهده تدويناً تؤيده أغلب المصادر التي لدينا عن الحالة التي كانت سائدة في ذلك العصر، ومع أن نزعته جعلته يعنى بأحوال أبناء طائفته، أعطانا عن عراقنا وعن سائر البلاد الإسلامي الخبر الوافي والوصف المسهب بقدر ما كان يستطيعيه أوروبي يزور الشرق الإسلامي لأول مرة.
وبذلك أصبح لرحلته هذه نوع شمول….يقول المثل: "لعل له عذراً وأنت تلوم" فإن النضال بين الشرق والغرب كان يومئذ على أشده بسبب الحروب الصليبية، فلم يكن بإستطاعة رجل غربي أن يكتب عن الشرق كل ما شاهده، ولم يقدر أن يمدح نظاماً أو يطري شرعاً أو يلهج بذكر عقيدة إلا بقدر؛ فالمرحّالة ظروف خاصة، وربما فاتنه أمور كثيرة، إلاّ أن ما استطاع أن يتوصل إليه من معلومات في ما ذكره من مشاهدات ومسموعات له قيمته التأريخية الجديرة بالإعتبار.