يُعالج هذا الكتاب موضوع قوة القضية المقضية أمام القضاء الجزائي والذي يُعبر عنه بمبدأ "عدم جواز محاكمة الشخص مرتين من أجل ذات الواقعة" وهو من المبادئ الهامة التي استحوزت على إهتمام المشرع في معظم الدول، نظراً لما يمثله من ضمانات على صعيد الحريات الفردية، ومن ثم فقد حرص على إبرازه والإعتراف الصريح به، وذلك للتأكيد على أهميته والدور الذي يلعبه والحماية التي يكفلها للأفراد.
ويمثل هذا المبدأ ضماناً هاماً من ضمانات العدالة التي تأبى أن ينزل بالجاني عن جريمته الواحدة أكثر من جزاء، فالمشرع عندما يقيس إثم الجاني ودرجة خطورته الإجتماعية على نحو معين يخصص لها عقاباً معيناً، على أساس أن هذا العقاب هو الجزاء المقابل والكافي للجريمة، بحيث إذا أنزل هذا الجزاء به تعذّر توقيع جزاء ثان عليه من أجل ذات الواقعة.
ويُعتبر هذا المبدأ كذلك صمام أمان للحريات الفردية التي تقتضي حصر تدخل الدولة عند وقوع الجريمة في إتخاذ الإجراءات التي يحددها القانون مرة واحدة وبصورة نهائية، بحيث إذا انقضت الدعوى الناشئة عنها بحكم مبرم انقضى كذلك سلطان الدولة الناشئ عن هذه الجريمة، وامتنع عليها العودة إلى الدعوى لأي سبب من الأسباب.
وتهدف السياسة الجزائية بتقريرها لها المبدأ إلى توفير الإستقرار القانوني الذي يكفل للأفراد حياة هادئة تظللها السكينة والطمأنينة في ظل قواعد القانون، وذلك بتحديد ماهية الجرائم والعقوبات سلفاً ورسم الحدود التي تُباشر الإجراءات والمحاكمات الجزائية، في ظلها، ومما لا شك فيه أنه يناقض هذا الهدف تجديد الإجراءات وتكرار المحاكمات عن جريمة واحدة لم يرتكب سواها، ومن ناحية أخرى فإن الإستقرار القانوني يحفظ للقضاء هيبته ويدعم الثقة في عدالته بوضعه حداً لديمومة النزاع وتضارب الأحكام وتناقضها.
وأخيراً يهيئ المبدأ السبيل الطبيعي للدعوى الجزائية لكي تبلغ غايتها الإجتماعية عن طريق حسم النزاع ووضع حد نهائي له وتثبيت المراكز القانونية للأفراد على نحو واضح لا يعرف الإهتزاز.