الأيام، أيام الشاعر، جزء من فنه، وبعده الزمني ضارب في بعده الفني والموضوعي، وأيام البردوني هي أيام اليمن. في بلد ضرير كل ما فيه أعمى أو يدعو إلى ا... لعمى. ولد عبد الله في قرية "البردون". وعندما كان طفلاً جاء موسم الجدري، وهو من المواسم الدائمة التي لم تكن لتتأخر عن "يمن الأئمة"...
الأيام، أيام الشاعر، جزء من فنه، وبعده الزمني ضارب في بعده الفني والموضوعي، وأيام البردوني هي أيام اليمن. في بلد ضرير كل ما فيه أعمى أو يدعو إلى ا... لعمى. ولد عبد الله في قرية "البردون". وعندما كان طفلاً جاء موسم الجدري، وهو من المواسم الدائمة التي لم تكن لتتأخر عن "يمن الأئمة" كأنه فصل من فصول العام التي لا تتبدل ولا تتغير. وفي طريقه، أي في طريق موسم الجدري، أخذ من كل قرية ومن كل مدينة ما استطاع على حمله من الكبار والصغار ليلقي بهم في المقابر، بعد أن ترك بصماته على بعض الوجوه، وبعض الوجوه انتزع منها أغلى ما فيها: العينين. وكانت عينا الطفل عبد الله من نصيب ذلك الموسم المتوحش || ذهبت عينا الطفل، ولكن بالرغم من ذلك الحاجز الأسود شق الضرير الصغير طريقه في الظلام، بين وحل القرية وشوكها، وعانى من هجير النهارات، ومن برودة الليالي، يلتقط كل شيء بقلب ذكي وعقل بصير، فضول في البحث لا حدود له، ورغبة شاسعة في معرفة كل شيء والاستفادة منه. وبعد انتقاله إلى صنعاء ودراسته في دار العلوم وصل إلى ما لم يصل إليه ملايين المبصرين، معلوماته الدينية، خبرته في علوم العربية تتسع، ثم هذا الشيء الذي يسمى الشعر بدأ يلين له ويعطيه من بواكير فاكهته. وتمضي الأيام، أيام الشاعر، فيتسع مجال القول، ويتسع مجال التعبير، وبدأ شبح الليل في التلاشي، القصائد الطالعة شموع وجدانية تضيء ظلام هذا الشاعر الضرير، وتبدد مخاوف أيامه. ومن الكلاسيكية إلى السريالية، هي الرحلة التي قطعها الشاعر البردوني في رحلته الفنية. تجاوز الكلاسيكية الجديدة، واستقر حينا مع الرومانتيكية، لكنه عاد إلى الكلاسيكية الجديدة ومنها إلى نوع من السريالية. ومن خلال قصائده في هذا الديوان يلمح القارئ بأن الشاعر ورغم محافظته على الأسلوب البيتي في القصيدة وهو المعروف بالعمودي، هو شاعر مجدد ليس في محتويات قصائده فحسب، بل في بناء هذه القصائد القائم تحطيم العلاقات اللغوية التقليدية، وابتكار جمل وصيغ شعرية نامية، صحيح أن إيقاعه كلاسيكي محافظ، لكن صوره وتعابيره حديثة تقفز في أكثر من قصيدة، وبخاصة في السنوات الأخيرة، إلى نوع من السريالية تصبح فيه الصورة أقرب ما تكون إلى ما يسمى باللا معقول. بدأ البردوني كلاسيكياً يقلد القدماء، ويقف طويلا عند أبي تمام، ثم تأثر بالرومانتيكيين تأثرا حاداً، وفي ديوانه الأول أمثلة كثيرة على ذلك منها هذا الصوت الجارح الحزين: يا شاعر الأزهار والأغصان، هل أنت ملتهب الحشا أو هاني؟ ماذا تغني، من تناجي في الفنا، ولمن يتوج بكامن الوجدان/ هل أنت تبكي أم تغرد في الربا، أم من بكاك معازف وأغاني؟ هذه الحيرة، هذا التردد بين الفناء والبكاء جزء من الشوط الرومانسي الذي قطعه الشاعر باكيا لاهثا، يبحث في قاع ذاته عن حلول اجتماعية فلا يعتد إلا على الدمع والأسى. وقد برع البردوني شاعراً في القصص الشعري، وفي الحوار والدراما، حيث توفر في شعره وفي دواوينه الأخيرة قدر حقيقي من الدرامية، فلا تكاد تخلو قصيدة من الحوار المباشر وغير المباشر. وقد حاول البردوني في فترة من فترات حياته الشعرية أن يعتمد نظام المقاطع المتعددة القوافي والموحدة البحر، وأحيانا المتعددة أو المختلفة الأبحر، إلا أنه في الفترة الأخيرة اكتفى بالتجديد داخل القصيدة نفسها، التجديد في اللغة وفي الصورة وفي أسلوب الاستعارة والمجاز اللغوي. وبالرغم من أن العالم الشعري بدأ ينهار من حولنا في شتى الأقطار وفي أرجاء المعمورة، إلا أنه عنده يبدو أصلب عوداً أو أكثر مواجهة للانهيار.