إن البلاغة ظلت دوماً ملتقى لخطابات متنوعة ثقافية وإجتماعية ودينية ونفسية، لا غرو أن يعتبرها الناقد الفرنسي رولان بارت "إمبراطورية حقيقية أكثر إمتداداً وإصداراً من أية إمبراطورية سياسية بحجمها وديمومتها".ومع التغيرات التي وسمت العالم المعاصر، أضحى حقل البلاغة أكثر...
إن البلاغة ظلت دوماً ملتقى لخطابات متنوعة ثقافية وإجتماعية ودينية ونفسية، لا غرو أن يعتبرها الناقد الفرنسي رولان بارت "إمبراطورية حقيقية أكثر إمتداداً وإصداراً من أية إمبراطورية سياسية بحجمها وديمومتها". ومع التغيرات التي وسمت العالم المعاصر، أضحى حقل البلاغة أكثر إتساعاً، إذ انفتح على أنساق أخرى مثل الصورة والإشهار التجاري والإعلام برمته، وقد اغتنت البلاغة بحكم هذا الإمتداد، ولذلك لم تعد "محصورة في البعد الجمالي بشكل صارم، بل إنها لتنزع إلى أن تصبح علماً واسعاً.
ولعل ذلك ما دفع بول ريكور إلى الإشارة للطموح الكلياني ونزعة التسامي، اللذين يخامران البلاغة منذ موطنها الأول بــ"صقلية" خلال القرن السادس قبل الميلاد، حتى لقد نصبت نفسها "فنا للخطاب الإنساني الأكثر إنسانية، لا بل إنها تطالب بتفوقها على الفلسفة ككل".
إن هذه الإمكانيات التي تؤمنها البلاغة هي ما يبرر إعتمادها في مقاربة خطاب المناظرة وتمثله، وإستنطاقه وفق ما تمنحه الآليات البلاغية.
إن إهتمام الكتاب ببلاغة الإقناع هو إعتبار للبعد الحجاجي الذي وسم البلاغة منذ ميلادها، وخول لها أن تعيش "عصورا حافلة بالأمجاد"، تقاطعت خلالها مع الفلسفة والجدل، وغطت مناحي الإجتماع البشري، في مقامات القضاء والتداول الإستشاري والمناسبات الكبرى... هذا البعد الحجاجي كشفت عنه بوضوح آراء أرسطو طاليس في كتابه الخطابة.
إشتغالاً على الموضوع، اهتم الكتاب في الباب الأول بإستعراض أهم الإسهامات النظرية الخاصة ببلاغة الإقناع، سواء في السياق الغربي القديم أو في سياق التراث العربي الإسلامي، أو في السياق الغربي الحديث.
أما الباب الثاني، فقد خصص للمناظرة في التراث العربي الإسلامي، بحيث تم التركيز على تحديد هذا الجنس، وكشف عوامل تبلوره وتطوره، ورصد فضاءاته ومعاهده الحاضنة، فضلاً عن الإستعراض المفصل لبنيته وآدابه.
وفي الباب الثالث، انبرى الكتاب للإشتغال التطبيقي على المناظرة مستخرجاً أهم الآليات الإقناعية والحجاجية التي تؤطر هذا الجنس، وقد تولى هذا الباب بالمتابعة البناء الحواري في المناظرة، وإشتغال الإستفهام والنفي والشاهد بها.