لقد سعى النقاد الغربيون إلى إقامة المدارس النقدية لينضوي تحتها كل فكر مبدع يتسم بالجدّة والموهبة الفذة، لتخرج إلى النقد العالمي بوجهات نظر سرعان ما تتحول إلى نظريات ومناهج، بعد دراسات مستفيضة ومؤتمرات ناقدة تقلب المنجزات على جوانبها وبرانيها، لتخرج لفضاء النقد مفاهيم...
لقد سعى النقاد الغربيون إلى إقامة المدارس النقدية لينضوي تحتها كل فكر مبدع يتسم بالجدّة والموهبة الفذة، لتخرج إلى النقد العالمي بوجهات نظر سرعان ما تتحول إلى نظريات ومناهج، بعد دراسات مستفيضة ومؤتمرات ناقدة تقلب المنجزات على جوانبها وبرانيها، لتخرج لفضاء النقد مفاهيم جديدة يتوخى أصحابها الموضوعية والدقة والشمول في تحليل النصوص الإبداعية. ولكن يمكن الزعم بأن التراث العربي رحم ولود، إلا أنه يفتقر إلى من يكشف عن خباياه وأسراره، وهذا الزعم يتجلى من أن أغلب المناهج النقدية الحداثوية لها مصاديقها في النقد العربي القديم، ومن هذه المناهج على سبيل المثال لا الحصر المنهج البنيوي الذي استشعره النقاد العرب في إطروحات عبد القاهر الجرجاني، وكذلك الأمر مع المنهج السيميائي الذي تمثل في بعض أطروحات الفلاسفة العرب من أمثال الغزالي وابن سينا وغيرهم.
ويمكن القول بأن الحاجة تبدو ملحة في إستقراء هذا التراث بشكل دقيق، وإستنباط ما يمكن أن يكون إضافة إلى الجهود النقدية العالمية، لا البحث من المناهج النقدية في الفكر النقدي العربي، ولا سيما أن الفكر العربي إبّان عصور إزدهار الثقافة العربية وصل إلى مراحل متقدمة من النظر المعرفي في مباحث الفلسفة وعلم الكلام والمنطق والنقد، ومن يبحث في هذا التراث يجد جلياً، فالمنجز اليوم لمن يقدم لحاضره لا لمن يتمجد بماضيه.
وإلى هذا فإن عمل النقاد العرب يتسم بالقصور الكبير إلا أنه لا يسيء إلى هذه المناهج، ولعل من حسناته أنه يبعث الإطمئنان لدى الفريق الذي ينادي بالإنقطاع إلى التراث ونبذ الإطروحات الغربية، ولم يكن المنهج السيميائي بعيداً عن هذا التنقيب النقدي بعد ما لاحت بوادره في أفق النقد العربي في الربع الأخير من القرن العشرين، حتى غدا للقارئ الذي واجهه المنهج البنيوي على سبيل المثال، فجاء توظيفه في الشعر والسرد على حد سواء، ليصل إلى مصاف الظاهرة النقدية التي يتوجب على النقاد الوقوف عندها إبتداءً من ثمانينيات القرن الماضي، وكلما تقدمت السنوات إزداد توظيف النقاد لهذا المنهج، الذي استقلت أصوله وقواعده الأساسية من خلال ترجمة الدراسات السيميائية بمختلف مرجعياتها.
وبذا يكون النقد العربي قد تسلح بكمّ هائل من وجهات النظر الغربية، وفي الوقت ذاته كان الناقد العربي يجرب آليات هذا المنهج على النصوص الإبداعية القديمة، بالشعرية والسردية على حدٍّ سواء؛ وعلى الرغم من كثرة الدراسات السيميائية التي تناولت السرد العربي الحديث، إلا أن ليس بإستطاعة الباحث العثور على من يتصدى لهذه الظاهرة النقدية، ولا سيما أن الدراسات السيميائية السردية سجلت هيمنتها على البحث السيميائي العرب في العقدين الأخيرين.
من هنا، تولدت فكرة هذه الدراسة لدى الدكتور محمد فليح الجبوري والتي وسمها بــ"الإتجاه السيميائي في نقد السرد العربي الحديث"، والذي اقتصر فيها على الفن القصصي الذي يسجل حضور في الأجناس السردية المعروفة، وقد قامت هذه الدراسة على ثلاثة فصول سبقها تمهيد من (العلامة في الفكر الفلسفي)، في حين جاء الفصل الأول تحت عنوان "السيميائية والسيميائية السردية عن الغرب/ الأصول، المنهج)، وَوُسِمَ الفصل الثاني بــ"السيميائية والسيميائية السردية عند العرب"، وجاء الفصل الثالث والأخير تحت عنوان "التطبيق السيميائي في نقد السرد العربي الحديث"، وأما المنهج الذي استقامت عليه هذه الدراسة، فهو المنهج الإستقرائي التحليلي الأقرب إلى الوصف منه إلى التأويل.