"لا أعلم ماذا عليّ أن أكتب اليك أيها الأب، ماذا عليّ أن أكتب عنك. انني أكتب لنفسي، أستعيد ماضيّ الذي كان جزءاً من حاضرك لأتذكرك. هل يمكن المرء أن يتذكر أباه وقد أصبح أكبر منه؟ هل يمكن شخصاً مثلي أن يفتقد أباه في الخمسين من عمره؟ لعلني تأخرت. لكنني أبحث عنك كما لو أبحث عن نفسي...
"لا أعلم ماذا عليّ أن أكتب اليك أيها الأب، ماذا عليّ أن أكتب عنك. انني أكتب لنفسي، أستعيد ماضيّ الذي كان جزءاً من حاضرك لأتذكرك. هل يمكن المرء أن يتذكر أباه وقد أصبح أكبر منه؟ هل يمكن شخصاً مثلي أن يفتقد أباه في الخمسين من عمره؟ لعلني تأخرت. لكنني أبحث عنك كما لو أبحث عن نفسي أيها الأب. أعرف جيداً أنني لن ألقى سوى شذرات، مبعثرة هنا وهناك، لكنني أبحث، أبحث لئلا أجد ما أبحث عنه. إنني أكتب سيرة لك؟ أم لي؟ لا أعلم. هل في حياتي ما يستحق أن أكتبه؟ هل يمكن شخصاً مثلي أن يكتب سيرته؟ ماذا يهم الآخرين ان قرأوا عن حياة شخص هو أنا، شخص يعيش حياته وكأنها شخص آخر؟ ها انني أمام نفسي، عارياً كالورقة التي أمامي، أكتب وكلي ثقة أن ما أكتبه ليس الا ضرباً من الهباء. هل سأعيدك حياً أيها الأب أم أنني أدفنك مرة أخرى؟ لا أعلم ان كنت أكتب سيرتي أو سيرتك. ما أعرفه عنك لا يكفي حتى لجعلك شخصاً على هامش الحياة. ومع هذا أكتب سيرة لي، وربما سيرة لك. فالسيرة ليست أصلاً؛ سوى وهم بوهم. و"العقد عقد السيرة الذاتية" كما سماه أحدهم، لا يؤكد أنني شخص حقيقي يسرد فصولاً من حياته الشخصية. لعلني عندما أكتب أصبح شخصاً متوهماً، شخصاً يتوهم أنه حقيقي وأنه يحيا الآن اللحظة التي يكتب فيها ما يكتبه. أليست الكتابة حالاً من الوهم الأقصى؟ هل يمكن الشخص أن يكتب نفسه؟ أنني أشك، ولأنني أشك، أكتب. لا يكتب المرء سيرته الذاتية الا انطلاقاً من هذا الشك. فعندما أكتب نفسي انما أجعل من نفسي نصاً. ما أصعب أن يستحيل المرء نصاً من حروف وكلمات. لأقل أيها الأب أنني أتنزه في ماضيّ الذي هو بعض من ماضٍ لك، كان ذات يوم. أتنزه في نفسي، جاهلاً تماماً أين أذهب وماذا أقصد وكيف أعود. هناك، أو هنا، في الوراء أو الأمام، شمالاً أو جنوباً... هذه الفسحة لا تخوم تحدها، لأنها الأنا.. الأنا التي هي آخر في أحيان، التي هي الذات والعالم، الواقع والحلم. الأنا التي هي نحن وهم، وكم أصاب رامبو الشاعر الفتى، عندما قال: الأنا آخر. وأياً يكن قصده فقوله هذا لا يحتاج الى أن يفسر. اذا فسر فقد سرّه الحارق.. لتكن أناي آخر أيضاً، وكفى. لا يهمني في هذه الأنا – هذه الأنا – الا ناحيتها السرية المستحيلة الملفزة، أكره الأنا المريضة بذاتها، الأنا المتضخمة، الأنا التي تجعل من نفسها المحور والدائرة، الأنا الفائضة.. كم كرهت هذه الأنا لدى المتنبي، التي هي القبل والبعد، المبتدى والمنتهى.. هذه الأنا المتغطرسة، المنتشية بنفسها، الأنا النبية، الأنا الفارغة من الألوهة. وعلى خلاف أنا المتنبي، أحببت أنا المتصوفة، الأنا المسحوقة بألوهيتها، الأنا المجروحة بالضوء، الحاضرة من شدة غيابها، المتتزجة بالـ "هو" المحترقة شوقاً الى الإمحاء".
غياب في حضور، وحضور في غياب، دوران يتماها فيهما الكاتب الذي وكأنه يبحث عن ذاته الغائبة في حضور أبيه، والحاضرة في غيابه. فهو الانسان ذاك المجهول.. وذاك اللغز الذي يبقى لغزاً حتى بالنسبة لنفسه.. هو الأب في حالة الذكورة، وهو الأم في حالة الأنوثة.. وتبقى هذه الحالة التي رصدها الكاتب في أعمال الأدباء والروائيين والفلاسفة واللاهوتيين وحتى في الكتب المقدسة. تبقى حالة ملحة تثير شجونه. فهل يمضي الكاتب مع ذاته في مشواره هذا، أم أن ذاته تمضي معه بحثاً عن كنهها؟!! سؤال ربما يبدو من الصعب الإجابة عليه.. ولكن لن يبلغ المشوار مداه ليلمح القارئ، وفي ثنايا كل حرف من حروف هذه الرحلة الى قاع الذات بحراً من الأنوار يتماوج شوقاً الى حلول الـ "هو" في "الأنا".. ليصبح المتكلم غائباً للحين، يتكلم بغيابه، يتكلم غيابه.. وليكتشف القارئ في نهاية المطاف أن من خط هذه السيرة انما هو كائن يبحث عن كنهه في حالة من التماهي الصوفي.