إن مكانة الغزالي في مجمل تاريخ الفلسفة الإسلامية ليست موضوعاً للجدل أو للتشكيك. وما القادحين والمنتقدين له إلاّ تمظهراً سلبيا لأهميته ومكانته، فالإعتراف تمستوى فكر الغزالي المميز كان في المستشرقين قبل غيرهم من أهل الحضارة الإسلامية ذاتها، رغم منظلقاتها الصارمة وغير...
إن مكانة الغزالي في مجمل تاريخ الفلسفة الإسلامية ليست موضوعاً للجدل أو للتشكيك. وما القادحين والمنتقدين له إلاّ تمظهراً سلبيا لأهميته ومكانته، فالإعتراف تمستوى فكر الغزالي المميز كان في المستشرقين قبل غيرهم من أهل الحضارة الإسلامية ذاتها، رغم منظلقاتها الصارمة وغير الموضوعية في بعض الحالات تجاه الحضارات الشرقية عموماً، والإسلامية تحديداً. فنجد مثلاً "دي بور" ورغم أنه ينتقص من روح الابتكار والنقد والتمحيص عند العرب، ويجعلهم حبيسي أخطاء الترجمة والنقل، مما جعلهم متقيدين مطلقاً بأفق الفكر الأوسكي المسيطر؛ إلا أنه في حالة الغزالي نجده يقول أنه من الأبطال الخالدين في الإسلام، وأنّ القيمة الفلسفية من المسائل المثبتة في كتابه "تفاهات الفلاسفة" من خلال نظرته الريبية الهجومية على المذاهب الفلسفية المستمرة في اليونان. وكانت دراساته – يقول دي بور – تتسم في الكثير من الجوانب بالموضوعية والأمانة، كما أنه كان واعياً بالمسائل الدينية التي أرقته مطولاً بالنظر إلى المسألة الفلسفية. وهذا يعكس صدق الغزالي وابتعاده عن التواري المعرفي مثل ما عمد الكثير من مفكري الإسلام الذين لم يظهر واخج عن جدية مشكلة الفلسفة والدين أو العقل والنقل؛ بل اختاروا الطرق السهلة من خلال اثبات التوافق المطلق بينهما. لكن في حالة الغزالي فقد طرح دون أي خوف مسألة الاضطراب الحاصل. كما هناك مستشرق آخر وهو كوربان، ومع اسقاطه كل الأحكام المبالغة والمفخمة لشخص الغزالي، فإنه يحتفظ بصفات مثل الألمعية والنبوغ مقارنة بباقي الفلاسفة المسلمين، ويعتبره المحقق في دراسة الفلسفة ويظهر ذلك في مقاصد الفلاسفة – الذي للباحث عمدة له في سياق بحثه هذا، خاصة القسم الأول المخصص للمنطقيات، وهو المحور والموضوع الأساسي والذي يشكل اهتمام الباحث، وقم تهافت الفلاسفة. والأكيد أن هذا الانفراد العجيب في فكر الغزالي قد لاحظه كوربان في:" تلك الثقة التي يوليها للمنطق والجدل الفعلي في سبيل الوصول إلى غاية محاجاته، فس حين أنه هو نفسه لا يؤمن بجدوى المنظق والعقل لبلوغ الحقيقة". ويقول الباحث بأن هذا القول في حقيقته يدعم ويقوي المشكلة المطروحة في بداية ومقدمة كتابه هذا، والمثقلة بصعوبة التوفيق بين مقولة الغزالي المدرسية التي تثبت الأهمية البالغة للمنظق في علم كل مفكر من جهة، وانكاره لأي أهمية للاستدلال في بلوغ الحقيقة الدينية من خلال نهج التصوف، مضيفاً بأن الغزالي وكأنه وقع في المحظور العقلي عندما وضع وحمل محمولين متناقضين على نفس الحامل. وهكذا يمضي الباحث في بحثه المتمحور حول الأورغانون الأرسطي في فلسفة الغزالي، انطلاقاً من عدّة أسئلة طرحها، مرتبطة بموقف الغزالي من منطق أرسطو، وهي كالتالي: ما هو موقف الغزالي من منطق أرسطو؛ وهل هذا الموقف منسجم ومتسق مع الخيط الفكري العام لفلسفته؟ هل كان الموقف الغزالي من منظق أرسطو موقفا ابستمولوجيا صارماً في معرفيته أم أنه موقف عقائدي يفتقر للنظر الفاحص الناقد وبذلك يسير في نهج الفقهاء حراس العقيدة بأي ثمن وبأية وسيلة؟ كيف يمكن أن يستقيم موقف الغزالي من المنظق وهو الذي تسلّق على الفلاسفة وعلم الكلام كعلوم عقلية في جوهرها، ليتوجه صوب علم عملي وذوقي لا حاجه له لمنطق أو منهج أو برهان، هذا يشكل جهة، وفي الجهة الأخرى هناك مقولة الغزالي في المستصفى" حول ربط الثقة بالعلم مهما كان مرهوناً بمعرفة المنطق التي تدل على الشتراطه لهذا العلم البراهاني؟ كيف يمكن استصفاء موقف الغزالي في خضم كل هذه الدروب المتشابكة غير المستوية؟ وأخيراً هل يمكن القبض على موقف الغزالي في المنطق الأوسطي في ظل لا انتمائه المؤقت؟ وفي أجل الاشتغال على هذه الأسئلة المتعددة لجأ الباحث إلى استعمال المنهج التحليلي الذي يقتضي التعامل مع النصوص الأصلية وتفكيكها من أجل الحصول على معناها البسيط الأولي، ومن أجل رد الأفكار المركبة والمعقدة إلى عناصرها الأصلية ومنيا ومنطقياً.