لعقود من الزمن ظلت السرديات في مقاربتها للسرد منحصرة في أفقها البنيوي. وإذا كانت قد استطاعت أن ترسي مقاربة علمية دقيقة للسرد خلال المرحلة البنيوية، فإن مشروعها النسقي لم يخل من مفارقات ابستيمولوجية، كشفت عن محدودية هذا الأفق البنيوي. ذلك أن طموحها الى بناء نحو للسرد على...
لعقود من الزمن ظلت السرديات في مقاربتها للسرد منحصرة في أفقها البنيوي. وإذا كانت قد استطاعت أن ترسي مقاربة علمية دقيقة للسرد خلال المرحلة البنيوية، فإن مشروعها النسقي لم يخل من مفارقات ابستيمولوجية، كشفت عن محدودية هذا الأفق البنيوي. ذلك أن طموحها الى بناء نحو للسرد على غرار نحو اللغة، جعلها تسقط في ميتافيزيقا النسق، حيث تحدد موضوعها في بناء نموذج افتراضي كلي للسرد. وهذا ما ترتب عليه اختزال النص المفرد الى مجرد تجل لهذه البنية الافتراضية العامة، باعتباره انجازاً من إنجازاتها الممكنة، بقطع النظر عن تنوعات متون السرد الثرية واختلافاتها، وتعدد مرجعياتها الأجناسية. وكانت النتيجة تهميش دينامية النص المفرد لفائدة نسقية النموذج، بحيث صار موضوع البحث هو السرد بصفة عامة، وليس هذا النوع السردي أو ذاك، أو النص السردي المفرد، وإنما قواعد النسق بصفة مجردة متعالية على تحقيقاتها الإمبريقية. هذا المأزق الابستيمولوجي، كان نتاج التأثر بالنموذج اللساني، لكنه انبنى على مفارقة، تمثلت في إهمال طبيعة النص المعقدة، ذلك أنه لا يمكن إسقاط النموذج اللساني على وصف النصوص، لأن بنيتها الداخلية تعتمد على عوامل ليست لسانية بشكل خالص. ينبثق طموح هذه الدراسة من محاولة تجاوز الأفق البنيوي للسرديات، أو بالأحرى توسيعه لينفتح على الأسئلة المعرفية والمرجعيات الثقافية لطبيعة السرد، وذلك في إطار اهتمامنا بصياغة تصور للسرديات الثقافية، لا يلغي المنجز النظري للسرديات البنيوية، خاصة ما يتعلق بمقولات تحليل النص السردي، ذات الطبيعة الاجرائية، والتي تحتفظ بفاعليتها البنيات السردية، ورصد أساليب السرد، ولكن يعيد تكييفها في أفق ثقافي، يتجاوز مستوى الوصف البنيوي، نحو عملية التأويل، وذلك بالبحث في المرجعيات الثقافية المحددة لدينامية السرد وقوته الرمزية في تشفير العالم، واستنطاق سياسات التمثيل السردي.