لم أصدّق ما جرى، عيناها الطافحتان بالحزن والتوسّل والموت جعلتاني أفقد صوابي وأتوقّف في مكاني وقدماي بانتظار مصيري، مدت كفّها نحوي وهي تحدّق إليّ، ثم ارتخت دفعة واحدة وسلّمت الرّوح، إعتقدت أنّهم سيوقفونني معهم أسيرًا، وكم فوجئت بوجه ميشيل، وهو يطلّ خلفهم، فكان آخر وجه...
لم أصدّق ما جرى، عيناها الطافحتان بالحزن والتوسّل والموت جعلتاني أفقد صوابي وأتوقّف في مكاني وقدماي بانتظار مصيري، مدت كفّها نحوي وهي تحدّق إليّ، ثم ارتخت دفعة واحدة وسلّمت الرّوح، إعتقدت أنّهم سيوقفونني معهم أسيرًا، وكم فوجئت بوجه ميشيل، وهو يطلّ خلفهم، فكان آخر وجه توقعت لحظتها أن أراه. رميت نفسي على صدره فأخذني بين ذراعيه، ماذا جرى؟ سنفهم فيما بعد أسرع... أشار لي أحد الرجال بارتداء الملابس التي رماها نحوي على عجل، أسرع.. إرتديت الملابس العسكريّة، وناولني ميشيل بطاقة عسكريّة "للقوّات" اللّبنانيّة تحمل صورتي وإسمي، وخرجنا جميعًا مسرعين، بعد أن أوصوني بألاّ أتكلم طوال الطريق كي لا تفضحني لهجتي، ولم يتركونا إلا بعد أن عبرنا المتحف إلى غرب بيروت. هي ليست بريئة من دمي كالذّئب روروما لم تكن إلا محطّة استراحة من دم يوسف الصّديق قال الملك أتوني به أستخلصه لنفسي، عزيزًا على بني إسرائيل، لكن الأرض كانت صفراء، ولم أرَ في المنام غير سنبلة يابسة تعانق عنان السماء.. كنت أحلم بوحيد، والدّم الذي رأيته يتدفّق في جسده كالشّلال، وكان عليّ أن أقبل بموته مثلما قبلت من قبل بموت الآخرين. بدت الأمور كأنّها تسير بمنطقيّة حسب قانون الكون، اجتزنا الزّوارق "الإسرائيليّة" التي كانت تمشّط الشواطئ بسلام، وهبطنا من زوارقنا في منطقة مظلمة وقصيّة وبدأنا نتسلّل إلى بناية عالية مقابلة لنادي الضباط لخطف إسحق بتروفتش وهو عالم إسرئيليّ في علم اللاّهوت، وأحد أعضاء الفريق الذي أنقذته "إسرائيل" لدى الفتيكان لمتابعة ترجمة المخطوطات، والمجموعة الأخرى كان عليها أن تتسلل إلى بنيان بيوت الضبّاط التي كانت متضامّة لنادي الضبّاط في نهاريّا لخطف ضبّاط، ثم الإلتقاء في نقطة الصفر التي حدّدها وحيد، والعودة إلى الزّوارق، كل شيئ سار بهدوء حسب ما خطط له. كنت مع المجموعة الأولى، وكان قلبي يخفق بعنف وأنا أتلفّت حولي مبهورًا بما أرى. هذه اذن هي الأرض التي ولدنا ونحن نهتف بإسمها، صارت الآن حقيقة تحت قدمي ولم تعد مجرد حلم وخيال، كلما اقتربت من حلمك اقتربت أكثر من الموت. تسللنا إلى البناية وصعدنا إلى الطابق الرابع وطرقنا الباب.. ثمة من كان يتقن العبرية في كلتا المجموعتين، سمعنا صوتًا هامسًا يأتي من خلف الباب، كانت الساعة قد تجاوزت الثانية صباحًا بخمسين دقيقة. عشرة دقائق قبيل الموتّ رد أحد المقاتلين بالعبرية فانفتح الباب، وظهر وجه عجوز تجاوزت الستين، فوجئت بنا وقبل أن تدرك ما يدور كان إثنان ينقضان على البيت ويهاجمان البيت، بقيت واقفًا مع رفيق آخر متربصين أمام الباب... حاولت العجوز أن تصرخ فصربها أحد القاتلين على رأسها بكعب البندقية فسقطت مغشّيًا عليها ثم خرجوا به وهو يبكي، ويتوسل تارة، ويصرخ ويتوعن تارة أخرى.. وصلنا إلى نقطة الصفر.. وفي اللحظة التي وصلنا بها انفجرت الأرض.. انسحب عشرة رفاق والضباط إلى الزوارق، وبقيت مع الذين بقوا على شاطئ لحماية المنسحبين ومعنا الجندي كرهينة.. ظلّ الاشتباك حتى الصباح، ثم بدأنا نتساقط واحدًا وراء الآخر، سقط سيّد ثم أبو جميل، ثم وحيد قيض بكفيه على حفنة التراب المعجونة بدمه متعمدًا، تماما كقصيدة تنبض بالحياة، كان يريد أن يودع الأرض التي جاء من أجلها. أن نكون قد خلقنا من تراب معجون بالدم لا بالماء؟ إنهض فالحرب لا تزال في أولها، والأرض ما زالت تئنّ تحتك من الموت.. "هل إنتصرنا؟ يسأل الظل الحزين ويحتضر.. اكتب إليّ رسائلًا بحروف ماء.. فوق ياقات الجنود.. ستنقل الروح الحزينة وعدنا ما بيننا، إذ وقفت أمام قبري بعد موتي ما كتبت براحتي ما جاء عني فوق ألواح القدر..". وقدره ألاّ يكلّ ولا يملّ بحثًا عن أخيه عيسى.. وبحثا عن فلسطين المفقودة.. رجلٌ أخفق ضباط الموساد معرفته حقّ معرفة.. فدفعوا ثمن ذلك الإخفاق. تتقاطع الأحداث.. وتتبدل المشاهد.. وتتسع مسارح الأحداث تشمل الأردن لبنان دمشق.. وأخيرًا فلسطين.. رحلة روائية يأخذك الكاتب فيها عبر زوارق من شعر.. ونثر روائي رائع لتحط رحالك في نهايتها عند مشهد يضمّ بيريز الذي حاول ذلك المقاتل إغتياله.. ورجال الموساد ليعقدوا معه صفقة الانضمام إليهم.. ويبقى لغز عيسى إلى نهاية المطاف يأخذه إلى ما لا نهاية..