"لم أختر العيش في طنجة على الدوام لكن ذلك حدث. كان المقصود من زيارتي أن تكون لمدة وجيزة، بعد ذلك سأنتقل إلى مكان آخر، وسأواصل الحركة إلى الأمام دون توقف. اعتراني الكسل وأجّلت الرحيل. بعد ذلك حل اليوم الذي أدركت فيه والصدمة تهزني بأن العالم لم يعد يحتوي على أعداد كبيرة من البشر...
"لم أختر العيش في طنجة على الدوام لكن ذلك حدث. كان المقصود من زيارتي أن تكون لمدة وجيزة، بعد ذلك سأنتقل إلى مكان آخر، وسأواصل الحركة إلى الأمام دون توقف. اعتراني الكسل وأجّلت الرحيل. بعد ذلك حل اليوم الذي أدركت فيه والصدمة تهزني بأن العالم لم يعد يحتوي على أعداد كبيرة من البشر كما كان عليه فقط منذ مدّة قصيرة قبل ذلك، ذلك أن الفنادق غدت أقل جودة وأن السفر أقل راحة، وأن الأماكن على العموم أقل جمالاً. بعد ذلك كلما ذهبت إلى مكان آخر فإنني أحن فوراً للعودة إلى طنجة. هكذا إذا كنت هنا الآن، فذلك يعود فقط لأنني لازلت هنا حينما استنتجت إلى أي حد ساءت أحوال العالم، وبأنني لم أعد أرغب في السفر. كدفاع عن المدينة يمكنني القول إنها إلى حد الآن ظلت أقل تعرضاً لبعض الجوانب السلبيّة للحضارة المعاصرة قياساً بمعظم المدن في حجمها. ناهيك عن ذلك؛ فأنا أجد متعة خاصة في الليل حين يحفر السحر خلال نومي قنواته غير المرئية في كل اتجاه، من آلاف المرسلين إلى آلاف المستقبلين دون أن يكونوا على علم بذلك. يلقي السحر بكلكله، بينما يجري السم في مجراه الخاص، وتجرّد الأرواح من شبه الوعي الطفيلي الذي يرقد في الأماكن القصية غير المحروسة للذهن. هناك قرع للطبول في الخارج أغلب أوقات الليل. لم أفق أبداً على قرعها؛ أسمعها فتغدو جزءاً من حلمي، كما الأصوات الليليّة للمؤذن وهو يقول "الله أكبر" يغطي على وجودي الآني ويحمل أي شيء ويأتي بعد ذلك إلى شمال افريقيا ويواصل الحلم مجراه..."
في سيرة ذاتية تحتفي بالكاتب بول بولز، صاحب هذه السيرة، وتجربة المغتربين الأمريكيين بين باريس وطنجة، تتحدث ميلسنت ويلون، والتي ستكتب أيضاً سيرة زوجته جين بولز، في كتابها المعنون "أنت لست أنا" عن الوجوه المتعددة لبول بولز وعن علاقته المرتبكة بمحيطه. ولعل التوصف الأكثر رجاحة لما يمثله بول بولز كمالة ثقافية تعبر عنه ديلون حينما تصفه بـ"المشاهد غير المرئي". يتسائل ديلون عن هذا الترحال الدائم بين نسق ثقافي وآخر مع الحفاظ دوماً على المسافى ذاتها من الحياد:" من الواجب استحضار -كيف لي أن أنسى ذلك- أنه حوالي خمسين سنة كان بول يعيش هنا وأن السحر والأشياء الأخرى التي تبدو لي غريبة هي من المسلمات بالنسبه له. هل بإمكانه أن يؤمن بالشيء، أو لا يؤمن به في نفس الآن، أن يبقى على شفى الحدود، دون أن ينتهي به المطاف في الأخير إلى تبني موقف هذه الجهة أو تلك؟" واذا كان بولز يقدم نفسه على أنه مجرد آله فإن القارئ ولهذه السيرة والتي تبرعمت انطلاقاً من قصة قصيرة كان قد كتبها وهو في حالة من العطالة في احدى المكتبات يلاحظ بأنه لا يجيد كثيراَ عن المنطق الثانوي الذي طبع الكثير من الكتابات التي تعرضت لموضوع الآخر والمغاير "يعبر بولز عن ولاءاته وقناعاته دون مواربة فيكشف عن طبيعة علاقته بالمحتل وأهل البلد وكيف أنه لا يرى ضيراً في محاباة السلطات الاستعمارية في أي مكان يحل به. فالسلطات الاستعمارية الفرنسية في المغرب، مثلاً، ضمان لراحته واستقراره المادي، أما أصل البلد فلا يعنيه من أمرهم سوى حالتهم "الطبيعية" التي تعارض تعارضاً تاماً مع ما تركه وراءه من آثار التمدن الموحشة. هكذا يعتبر المقاومة ضد الاستعمار الفرنسي إرهاباً والمقاومين مجرد إرهابيين كما أن زلزالاً ضرب مدينة أغادير المغربية سنة (1960) وأتى على كل شيء فيها يعدّ نعمة من إلهية بالنسبة له، وأن منظر البركان الذي غطت حممه إحدى القرى الآسيوية حدثاً رائعاً. ومهما يكن من أمر، فإن ما كتبه بولز هذه هي سيرة حياة كانت ضحية المبتدأ والخبر فيها.. وعنوانها العريض هو الارتحال بين جغرافيات طبيعية وثقافية مختلفة.