إذا كانت نتائج إختراعات علم الإحياء كونية بمجرد أن يتواضع عليها العلماء والمؤسسات المختصة وتستفيد منها غالباً سائر البشرية؛ فإن الأخلاقيات ثقافة تتحكم فيها أولاً وأخيراً شروط المكان والإنتساب الثقافة معينة دون غيرها، ما يطرح على المحك كيفية حل إشكالية العلاقة بين كونية...
إذا كانت نتائج إختراعات علم الإحياء كونية بمجرد أن يتواضع عليها العلماء والمؤسسات المختصة وتستفيد منها غالباً سائر البشرية؛ فإن الأخلاقيات ثقافة تتحكم فيها أولاً وأخيراً شروط المكان والإنتساب الثقافة معينة دون غيرها، ما يطرح على المحك كيفية حل إشكالية العلاقة بين كونية العلوم وخصوصية الأخلاقيات. لذا، هل تسعف الفلسفة الإنسان في التفكير في أخلاقيات ذوات حمولة كونية تهدي الإنسانية نبراساً يضيء لها الطريق في بحر لجيٍّ؟ يتعلق الأمر بسؤال صعب ما دامت الإجابات المقدمة حول إشكالات محددة مختلفة ومتناقضة ومتضاربة تضارباً شديداً بحسب الدول والمجتمعات: فإذا كانت قطع غيار الإنسان العضوية سلعة تجارية مسموحاً بها في بعض الولايات الأميركية؛ فهي ممنوعة في فرنسا والدول العربية، وفيما إن إستعمال أعضاء الأموات وزرعها مرخص به في فرنسا، لكنه مرفوض في اليابان؛ نظراً لإختلاف الثقافة بوجه عام والمعتقدات الدينية والأعراف بوجه خاص، ناهيك عما تطرحه قضايا الأرحام الإصطناعية، وتأجير بطون للحمل، وتعديل أو تحوير المورثات الصبغية والإستنساخ، وقضايا إدماج العضوية الإلكترونية في العضوية الحية... إلخ.
لذا، كيف لا يشكل هذا التناقض في هذه الإجابات المقدمة دافعاً إلى فتح سؤال الفلسفة حول هذه المواضيع العلمية والأخلاقية على نحوٍ سيّان، وهو الأمر الذي يؤكد من جديد أن كل المجتمعات البشرية تجابه بدون إستثناء أسئلة الحقيقة والكذب والخير والشر الناجمة عن ذلك، لكنها مختلفة في إجاباتها عن هذه القضايا العلمية والأخلاقية؛ مما يجعل سبل التوافق على معايير كونية شبه مستحيل أو بالغ الصعوبة، لكن هذا يعني أيضاً أن الناس فاعلون أخلاقيون بإمتياز، منشغلون على الدوام بتسويغ إعتقاداتهم وأفعالهم أو إيجاد مبررات مختلفة لها، لكن كل من الرؤية العلمية والأخلاقية تستدعي في الأخلاقيات الحيوية تركياً جديداً يجمع بين الطبيعة والثقافة والعلم والأخلاق.
لكن ما السبيل للفصل بين الصدق والكذب أو حصول إجماع كوني في ميدان تتصل فيه علوم الحياة والأخلاقيات وبصفة مستقلة عن كل مسلمة وإعتقاد غيبي أو وثوق علموي؟ هذا وتبقى المحاولات مستمرة لإيجاد إجابة عن هذا السؤال، وإنما يمثل هذا الكتاب إحداها... إذ إنبرى ثلة من الباحثين في هذا الكتاب إلى معالجة جملة من قضايا علم الإحياء والطب (بوصفهما تقنيات تعمل على الحفاظ على النوع البشري وعلى تحسين شروط البقاء في الحياة) في علاقتهما بعلم الأخلاقيات الذي ينظم السلوك الإنساني وأشكال الإستعمال والإستخدام والتصرف؛ بحيث تطرح تدخلات التقنية عموماً في عضوية الإنسان الحيوية أسئلة وإشكالات قانونية وصحية وإجتماعية ودينية، وبيئية وإقتصادية وسياسية.
وعلى هذا؛ فإن المباحث التي يضمها هذا الكتاب تتعلق بأهم مشكلة تواجه الصلة بين الطب بفرعيه: البايولوجيا والفلسفة، وهي أخلاق البايولوجيا أو مشكلات الهندسة الوراثية وصلتها بالأبعاد الأخلاقية، وما سببته التقنية من نتيجة مزدوجة في الخدمة والتطور من جهة، والهيمنة والإختراق والتدخل من جهة ثانية.
من هنا، فإن الإشكال الأساسي الذي تبحث فيه مجموعة تلك المقالات هو: هل البيوتيقا "الأخلاق البابولوجيا" يلزم عليها أن تكون علمانية؟ أم إنها يمكن أن تخضع للتشريع الديني والإلزام الأخلاقي؟.
وأخيراً، يمكن القول بأن الكتاب إنما يمثل محاولة في الكشف عن الجدل بين الثابت والمتحول، بين الكوني والخاص جداً، بين المتغير التقني والطبي والراسخ من الإنساني في موضوعات الحرية والكرامة والمساواة، ولذلك فهو يعدّ نصاً في غاية الأهمية لمن يحاول كشف وسبرغور هذه العلاقة.