يتفق بني البشر أن النحت أو الإصطلاح اللغوي من المؤشرات السيكولوجية والإجتماعية على عبقرية العقل البشري، فملكة الترميز عنده علامة مائزة تسمو به على عالم الكائنات الدنيا.فالكون في غياب الرمز مجرد متاهة، كما أن مرجعية الإبداع النصي تكمن في القدرة على البناء اللغوي، أو في خلق...
يتفق بني البشر أن النحت أو الإصطلاح اللغوي من المؤشرات السيكولوجية والإجتماعية على عبقرية العقل البشري، فملكة الترميز عنده علامة مائزة تسمو به على عالم الكائنات الدنيا. فالكون في غياب الرمز مجرد متاهة، كما أن مرجعية الإبداع النصي تكمن في القدرة على البناء اللغوي، أو في خلق النص؛ لأن المادة اللغوية بشكل خاص، والفكرية بوجه أعمّ معطاة لجميع الأفراد الناطقين باللغة، ولكن التميز داخل المجال اللغوي والتفنن في إنشاء منظومة لغوية تسمح بتنميط المبدع في نسقه الخاص الذي يكون هويته أو وليداً شرعياً لتلك الشخصية، والمطلوب البحثي في هذه الدراسة تحركه الرغبة في تسليط الضوء على صنف أدبي ارتبط وجوده بإصطلاح إنساني فردي، وبلا نهائية الإمتداد، إذ لم تقف دلالات الإصطلاح الجديد عند الحدود التي رسمها لها صاحبها وإن كان الإيحاء الذي اختاره يندّ عن كل تحديد أو تأطير جغرافي، أو تاريخي، أو مستقبلي، إنه مصطلح يوتوبيا.
يضع لفظ "يوتوبيا" القارئ أمام جملة من المفارقات الفكرية، أهمها الحضور في مجال الإنسان وفي ميدان العلوم، واللذين يشكلان من حيث الطبيعة حقلين متضادين، ففكرة النموذج والمثال ليست حكراً على الفلسفة أو الأدب فقط بل تكون مطلباً منهجياً في جلّ العلوم.
وإلى هذا، فإن اليوتوبيا في ظل إشكاليتها الزمانية تبدو متمايزة عن غيرها وإن اشتركت في كونها يوتوبيا، إلا أنها في نص الجمهورية لدى أفلاطون تبدو مرتبطة بالمجتمع الأثني وأفقه الفكري، وتنتهج التربية مجالاً رحباً من أجل التغير والتحول بوصفها حلاً لما تعانيه اثينا من إستبداد، إلا أنها في نص الفرابي تأخذ مجالاً أرحب يشمل الواقع الإسلامي إذ زالت الدولة فكان هذا الواقع محرصاً على كتابة الفارابي "المدينة الفاضلة" التي تحاول أن تجمع تناجياً بين الفهم الأفلاطوني والفهم القرآني، في إيجاد تحول ممكن في الواقع الإسلامي كذلك الحال في لحظة ولادة الخطاب اليوتوبي والتأسيس له مع مور؛ إلا أنه كما يرى كامل شياع مختلف مع أفلاطون ومستقل عنه فإشكالية اليوتوبيا مختلفة، فالحاجة إلى الحرية هي الدافع إلى كتابة عن اليوتوبيا بوصفها تقدم فهماً جديداً للدين وعلاقته بالحياة وبالتالي للحرية.
وهذا الأمر يختلف عما هو عليه في عصر التنوير أو القرن التاسع عشر إذ هيمن على القول اليوتوبي في (التاسع عشر) الحث على النظام.
ضمن هذه المقارات يأتي هذا الكتاب الذي يضمّ دراسات لمجموعة من الأكادميين العرب في الرابطة العربية الأكاديمية للفلسفة والتي يطمحون من خلالها إلى دراسة القول اليوتوبي بالمقاربة مع الإيديولوجيا في تناول أفكار مختلفة عن أصل المصطلح وتاريخته وتحولاته ومن ثم الإضافات التي طرأت عليه، وما علاقته بالواقع والمثال، كما تطرقت هذه الدراسات كذلك إلى سرد لأهم الفلاسفة الذين تناولوا اليوتوبيا دراساً وكتابة، كما مع أفلاطون وأرسطو والقديس أوغسطين وعلم الكلام الإسلامي والفلسفة الإسلامية، ومن ثم في التحول نحو يوتوبيا التحرر في العصر الحديث مع الماركسية.
إلى الإنعطاف بها مع مدرسة فرانكفورت، ومن ثم الكشف عن خبايا القول اليوتوبي في الفكر الليبرالي المعاصر في أميركا مع راولز، وكذلك تحليل نوزك لليوتوبيا ولم تقف الدراسات بمعالجات خارجة عن الحيز النقدي العربي المعاصر فجاء بعض من هذه الدراسات كما حول الكشف عن إعادة النظر في القول اليوتوبي مع القصيمي، وكامل شياع ومحمد خضير، هذا وتجدر الإشارة إلى أنه تم إلحاق الكتاب بنصوص مترجمة بهدف إغنائه فيكون نافعاً بالقدر التخصصي والمعارف عامة.