"أول مرة رأيت فيها "إدريس علي"، ذلك النحيل، الذي سيربكني أشهرا طويلة بعد ذلك، كان في حي النور الشعبي، في الجانب الشرقي من مدينة بورتسودان الساحلية، حيث نشأت ودرست أغلب مراحلي التعليمية الأولى، وكونت مسيرة حياة ما زالت ماضية حتى الآن. وكنت قد أكملت تديبي الطبي الشاق، في كافة...
"أول مرة رأيت فيها "إدريس علي"، ذلك النحيل، الذي سيربكني أشهرا طويلة بعد ذلك، كان في حي النور الشعبي، في الجانب الشرقي من مدينة بورتسودان الساحلية، حيث نشأت ودرست أغلب مراحلي التعليمية الأولى، وكونت مسيرة حياة ما زالت ماضية حتى الآن. وكنت قد أكملت تديبي الطبي الشاق، في كافة فروع الأمراض، داخل مستشفى المدينة الكبير، لأصبح طبيبا عاما، يتقافز بين الجراحة والباطنية وطب الأطفال والأمراض الجلدية والنساء والتوليد ، لكني اخترت القسم الأخير واختارني لأعمل فيهحتى أنال تخصصا، وكان لا بد من عيادة مسائية في واحد من تلك الأحياء البعيدة عن نظر الأخصائيين، لزيادة الدخل وملء احساس الطبيب بأنه يملك مدينة جذابة وذات عائد، بعد سنوات الدراسة الطويلة التي أنهكت موارد الأسرة صنعت خاتما خاصا في واحدة من ورش الخشب المنتشرة في المدينة، وعدة دفاتر من الورق الأملس عليها إسمي، وإسم جامعتي التي تخرجت فيها، في مطبعة رخيصة وظللت أدور بختمي وأوراقي، وعربة والدي الصغيرة من ماركة كورولا، بين عمادات زملائي القدامى، أغطي غيابهم المؤقت إن غابوا، وأستلف منهم أياما متفرقة، يساعدني إيرادها القليل على منصرفاتي، لكن ذلك لم يكن يرضيني، وما زلت بلا اسم ولا بريق ولا عربة خاصة أستخدمها وحدي، وحين أشاء، كان عز الدين موسى، أحد مساعدي تحضير العمليات القدامى، الذين عملوا معي أثناء التدريب، وتعلمت منهم كثيرا من الحيل، يسكن في حي النور البعيد. وكان قد أنشأ بيته منذ فترة طويلة، عيادة بمواصفات الحي نفسه، لا غرفة مصبوغة بعناية، لا أثاثا جيدا مريحا، لا كهرباء تبرز الإسم على لوحة مضيئة، ولا حتى طريق نظيف بلا حفر تشقه العربة حتى تصل.وكان قد تعاقب على عيادته تلك عدد كبير من الأطباء الذين عملوا في الساحل، يجلسون عليها سنوات أو أشهر، أو أياما معدودة، ثم يذهبون. بعضهم إلى تخصص يختاره، وبعضهم إلى هجرة يهاجرها وقد يترك بعضهم المهنة تماما ويتفرغ لأعمال أخرى مثل التجارة والسمسرة، والعمل السياسي. حدثني عن الدين بأمر تلك العيادة بعدما أن خلت ذات يوم بحصول شاغلها الأخير، وكان إسمه "الماهي"، على عقد عمل في دولة عربية خليجية، وسافر على الفور، حدثني عن ازدحامها الشديد، وزبائنها الذين بلا حصر ويقودون عليها منذ سنوات طويلة، ودخلها الذي لا يتوفر حتى لكبار المتخصصين، أصحاب اللافتات اللامعة المضيئة في وسط المدينة وانسقت خلفه حتى قبل أن أرى الموقع، وأقرر إن كان يصلح عيادة حقيقية أم لا؟ اشتريت مولدا صغيرا مستعملا الكهرباء هندي إسمه بروشاندرا، وجلسنا أنا وعز الدين موسى الذي يعمل أيضا ممرضا بالعيادة وإضافة إلى ملكيتها، بعد ذلك أياما قاربت الشهر، على كرسيين قديمين من البلاستيك المقشر، أما باب العيادة بلا عمل، نتابع الزحام الذي يتخبط في الظلام أمامنا، ويحدثني عن زبائن بلا عدد سيأتون حتما في أحد الأيام..." تستوقفك هذه السيرة الذاتية للكاتب الطبيب أمير تاج السر وفي ذهنك تساؤل: إلى أي مدى تعكس السيرة الذاتية شخصية صاحبها بكل ما يحمله من صفات الجدية والهزلة، والمصطنعة أو التلقائية.. كلها ترسمها ملامح كلماته وعباراته ولا تقف عند هذا الحد إذ هي تتجاوزها إلى الطريقة السردية التي يرضي معها القارئ وقد تأثر بها إلى حد كبير، فها هو أمير تاج السر، بتلقائية رائعة، يسرد سيرته الذاتية التي تمتع القارئ بنبرتها الساخرة الناقدة، والتي لم تكن تخلو من مواقف تبعث في النفس المرح راسمة على الوجه انفعالات الضحك والسرور، رغم كآبة الحدث، وذلك بالامكان ادراكه عند تغيير الأسلوب لتدرك بأن ذاك الطبيب قاس ما قاساه ومرّ عليه من الظروف الصعبة ما مر، إلا أنه لم يرد إلا أن يخلق من المآسي ملهاةتنحو منح السخرية.. فتعلم أن شر البرية ما يضحك...