"أتذكر هذه الأشياء الآن... لماذا لا أقف عن تذكرها؟"... لقد مضى الزمن بجروح دامية وبحركة بطيئة وقاتلة، حتى أصف جريمته بشكل تراجيدي كامل الصفات، وبكامل الوعي المشقق والشقي... أعرف أنني أتذكر كل مرة أنظر فيها إلى وجههي في المرآة، وأقول مكرراً نفسي الجملة عدة مرات: "لقد مضى الزمن...
"أتذكر هذه الأشياء الآن... لماذا لا أقف عن تذكرها؟"... لقد مضى الزمن بجروح دامية وبحركة بطيئة وقاتلة، حتى أصف جريمته بشكل تراجيدي كامل الصفات، وبكامل الوعي المشقق والشقي... أعرف أنني أتذكر كل مرة أنظر فيها إلى وجههي في المرآة، وأقول مكرراً نفسي الجملة عدة مرات: "لقد مضى الزمن بسرعة... لقد مضى الزمن بسرعة".
في الحقيقة، لم يمضِ الزمن بسرعة كما أحاول أن أقنع نفسي بذلك، لقد مضى ثقيلاً وبارداً، جارحاً ومسموماً، لقد ترك الزمن أثره على روحي وأعصابي وقلبي وجسدي... ترك أوشاماً حقيقية في كل مكان مني، إنني أتذكر كل تلك الذكريات لأنه لم يبتلعها النسيان بعد، وربما لن يمحوها من ذاكرتي حتى لو حاولت ورغبت.
فما الإنسان إلا ذاكرته وماضيه عندما يكبر ويتقدم في السن، إنني أشعر كما لو أنني أغادر تلك النقطة بالذات، حيث كانت الأحلام تطير وتغني، والآلام تصرخ وتعوي، أسترجع الذكريات الملتهبة في صدري وذهني، رغم أنها صارت الآن بعيدة نوعاً ما، وقريبة كثيراً عندما تنفجر صورها في رأسي من جديد، لا أحد يجب أن يستعيد ما أفل نجمه، وضاع أثره وغاب في سجن ظلمات أزمنة القتل الوحشي... من يريد أن يتذكر معي؟ لا أحد... لا أحد... هل تتذكرون تلك الأيام واللحظات والدقائق؟... أظنكم نسيتموها بالتأكيد، أو أقفلتم عليها في غرف مظلمة، وقلتم مقسمين بأغلى ما تملكونه من مقدسات أن لن تفتحوا لها الباب ثانية، لتطل مرة أخرى فتعكر صفو حياتكم الهانئة اليوم... وهل هي هانئة حقاً؟ دعوني أشك في تلك السعادة التي تدعونها. دعوني أطرح علامات تعجب على كل من يدّعي أنه هانئ، ومقتنع، وفي ظلمة ذاكرته تعيش آلاف الصور القاسية، وذكريات العنف المتوحشة... كيف نجد الكلمات لنعيد لتلك الحياة ألقها الحقيقي؟... هل تنفذ الكلمات الكاتب أم الإنسان؟... وهل كان يهمني حينها أن أنقذ نفسي أم أنقذ العالم؟ وهل كانت كلماتي ستكون هي الدليل على قسوة العالم؟ أم قسوتي أنا على هذا العالم؟ لا أدري، لم تكن عندي أجوبة، وكان هي الأساسي كيف أستخرج الكلمات من داخلي الممتلئ حدّ التخمة بضجيج العالم والحياة والناس، وأصوات الذين يشبهوني، وقرأت لهم وعنهم مئات الكتب والقصص، وشعرت أنهم مثلي معذبون مجروحون، ويحاولون أن يجدوا في تلك الفوضى الدامية والمتوحشة خيط نوراً وضوء طريق، وقدرة على كتابه ما يهجس في أنفسهم وتقشعر له أبدانهم، وترتعد له فرائضهم، ويشعرون أنهم منذورون للوحشة والقسوة والألم، وأن خلاصهم لا يوجد إلا في هذا الذي يكتبونه ويعذبهم.