تعتبر نظرية العلم الفارابية من بين المداخل الضرورية لإدراك أبعاد المشروع الفلسفي لأبي نصر وإستيعاب النصوص الحاملة لهذا المشروع، لأنها تقدم مكونات المعرفة العلمية وشروطها الضرورية كما تقدم الميكاتزمات المنطقية والإبستيمولوجية التي تقوم عليها، وترسم معالم كيفية بنائها...
تعتبر نظرية العلم الفارابية من بين المداخل الضرورية لإدراك أبعاد المشروع الفلسفي لأبي نصر وإستيعاب النصوص الحاملة لهذا المشروع، لأنها تقدم مكونات المعرفة العلمية وشروطها الضرورية كما تقدم الميكاتزمات المنطقية والإبستيمولوجية التي تقوم عليها، وترسم معالم كيفية بنائها وشروطها المؤسسة. وإلى هذا، فإن الناظر سيدرك تشكل معجم المفاهيم المنطقية والعلمية والفلسفية التي يستعملها الفارابي في مجالات معرفية مختلفة، معجم غني قد يجعل الدارس لمفهوم واحد، مثلاً، الحاضر في سياقات معرفية مختلفة، لا يفهم دلالة إستعماله وعلاقته بالمفاهيم الأخرى ومنزلته في شبكة المفاهيم إلا إذا اعتمد نظرية العلم.
لذلك، فهي ضرورية لفهم متنه، وكل محاولة لمقاربة تراثه الفلسفي، في غيابها سيجعله أمام ركام من المعارف المبعثرة في مؤلفاته دون رابط منطقي؛ لذلك، تعرفنا النظرية بما يؤسس منطقياً وابستمولوجياً نظرياته السياسية والأخلاقية والإجتماعية والميتافيزيقية إلخ؛ ويصبح بالإمكان إدراك العلاقة الموجودة بين هذه النظريات وطبيعة إشكالاتها ودلالاتها.
وقد يقع الناظر في إشكال العلاقة بين العلوم في متاهة وقد تكون إستنتاجاته سطحية غامضة ومتناقضة إذا لم يعتمد النظرية وقد يستنتج نتائج وينتهي إلى تأويلات قد تكون النصوص بريئة منها؛ لذلك فهي ضرورية لفهم مشروعه الفلسفي، وتقدير إسهاماته الفلسفية.
فالنظرية في نسقه، أشبه بمركز الدائرة: منها تتفرع الخطوط - لإشكالات والنظريات الفلسفية - إلى محيطها، فهي نافعة في تحصيل ما يجعل من المعرفة علمية، ومدى إحترامها لشروط العلمية، وفي إمتلاك فهمٍ صحيح للأوضاع الإبستمولوجية للمجالات العلمية المختلفة، للقوانين الكلية العامة للخطاب العلمي بإطلاق، لا من حيث هو خطاب في هذا العلم أو ذاك وإدراك المحددات الكلية لآليات البرهان وماهية الحد وطرق إلتئامها لأن العلم تصديق يقيني وتصور تام.
وفهم الجهة التي تكون البراهين المطلقة حدوداً بالقوة، إذا تم أخذ النظرية كــ"عملة" ذات وجهين: نظرية البرهان ونظرية الحد، فالنظرية؛ بإعتبارها تنظيراً للواقع العلمي، ضرورية لفهم واقع الممارسة العلمية، وعلاقات العلوم ببعضها: علاقة الكلية بالجزئية وعلاقة الجزئية ببعضها وعلاقة النظرية بالعملية ومنهم ما يؤسس هذه العلاقة ومبادئ تصنيف العلوم وتراتبها.
إن العلوم أجناس وأنواع متباينة، ويشكل هذا المبدأ منطلقاً لتصنيفها وترتيبها، ودعامة نظرية لتميزها عن بعضها، تحكم هذه الدعامة النظرية ضرورتان: الواحدة منطقية يفرضها التحليل المنطقي الإبستيمولوجي لمبادئ العلوم، وموضوعاتها ومسائلها في ضوء بيان شروط محمولات البرهان وخواصه أو مبادئه وعلى رأسها الحدّ، والأخرى فلسفية تصادر على أن كل الموجودات، موضوعات العلوم، أمور متباينة وأعراضها بالضرورة متباينة ولا يمكن أن تكون مشتركة لأكثر من علم واحد، فتختلط العلوم وتكون الموجودات المتباينة من طبيعة واحدة وهذا محال.
إلا أن بيان ما يميز كل علم علم في ذاته والنظر للعلوم كأنساق مختلفة متباينة لا يعني إقامة قطيعة تامة بينها؛ بل هي مترابطة وتشترك وتتعاون حيث تقدم نظرية العلم عناصر هذا الإشتراك والتعاون وأسبابها.
إن نظرية ذات بعدين متمايزين ومتكاملين: يتم في البعد الأول النظر إلى آليات البرهان الصورية، أي الكلية، والشروط والخواص اللازمة لمبادئه ومطالبه ونتائجه بإعتبارها المادة المؤسسة لليقين التام، والنظر إلى ماهية الحدّ وشروط إلتئامه ومنزلته في العلم وعلاقته بالبرهان من حيث هو تصديق يقيني.
ضمن هذه المقاربة تأتي هذه الدراسة التي يتناول الباحث فيها نظرية العلم عند أبي نصر الفارابي وهي دراسة تحليلية نقدية جاءت ضمن بابين، تم في الأول النظر في ماهية الحدّ وشروط إلتئامه ومنزلته في العلم وعلاقته بالبرهان من حيث هو تصديق يقيني، حيث تم فحص نظرية العلم بإعتبارها تركيباً لنظرية البرهان ونظرية الحدّ.
وتم تخصيص الباب الثاني لفحص البعد الثاني الذي موضوعه واقع الممارسة العلمية، أو أشكال العلاقة بين العلوم ونوع إشتراكها وأوجه التداخل والتمايز بينها، هو فحص فجديد للبراهين، بما هي علوم وصناعات في ضوء ما تم إستنتاجه من فحص البرهان والحدّ بإطلاق.