"إذا كان من المعلوم بداهة أن إنساناً لا يخلو من عيب (وأزيد فأقول لا يخلو من عيب جسيم) فإن الأحرى أن ينطبق الأمر نفسه على الشخصية القومية أو الشخصية الوطنية... أيهما أدق في الإشارة إلى الشخصية الجامعة للأمة في دولة أو بضع دول مجاورة تتقاسم ملامح جغرافية وتاريخية وإجتماعية...
"إذا كان من المعلوم بداهة أن إنساناً لا يخلو من عيب (وأزيد فأقول لا يخلو من عيب جسيم) فإن الأحرى أن ينطبق الأمر نفسه على الشخصية القومية أو الشخصية الوطنية... أيهما أدق في الإشارة إلى الشخصية الجامعة للأمة في دولة أو بضع دول مجاورة تتقاسم ملامح جغرافية وتاريخية وإجتماعية وثقافية مشتركة... غير أن علة أية شخصية عربية على وجه الخصوص أنها لا تحب الإعتراف بعيوبها، وهذه بسيطة، فمن يفعل ذلك؟... إن على المستويات الفردية أو على صعيد الأمم؛ الطامة أن الشخصية العربية عموماً تحب أن تحيل عيوبها إلى فضائل وبإصرار يدعو إلى الدهشة... وربما الشفقة، وكثيراً ما أراجع نفسي عندما تكاد تنطلي عليّ إدعاءاتنا بالعظمة المطلقة لعلي أكون قد أثقلت على شخصياتنا بما لا تتحمل وزره كاملاً من تبعة جنون العظمة، فربما كانت ترى نفسها كذلك مكلّلة بالجلال من الأزل إلى الأبد، وذلك مما يصح فيه بالإستشهاد بالشعر الذائغ: "ماذا كنت لا تدري فتلك مصيبة... وإن كنت تدري فالمصيبة أعظم"، أسوق هذا الحديث بإطمئنان لأننا بحسبب أحمد شوقي: "كلنا في الهم شرق"، حتى إذا تباينت طبيعة الهم لدى كل شخصية عربية، وإن يكن المقصود بالعلّة في هذا السياق لا يرقى بإستمرار إلى منزلة الهم من النقائض، ولعله لا يتجاوز السمة بما تتضمنه من وجوه حمّالة تأويلات مضادة من الخير في الشخصيات العربية أن الواحدة منها تتقبل الأخرى على علاّتها، وبالتعبير الأدق...
على كل ما تراه علّة في الشخصية الأخرى، وإن يكن لا لزوم للتحوط عندما تُجمْعْ سائر الشخصيات العربية على علّة بعينها في واحدة منها، وهذه ليست بالحالة الشاذة أو النادرة، فأسهل الطرق للوقوف على المآخذ على أيّ من شخصياتنا هو إخضاعها لإختيار الإجماع من قبل الشخصيات الأخرى، ولا تحفظ في ذلك سوى أن المأخذ بحسب هنا رجوعاً إلى الأخلاق والمعايير العربية في التقييم لا غير، فإذا كان معروفاً على سبيل المثال عن الشخصية اللبنانية المنمّطة في المخيّلة العربية الإتصاف بقدر كبير من التحرر الفكري والإجتماعي مما لا يلقى قبولاً في المجتمعات العربية الأخرى الأكثر محافظة (حتى إذا كان ذلك التحرر موضع إعجاب وتلصص من قبل الشخصيات العربية الأخرى).
فإن لدى اللبنانيين عموماً تفسيراً آخر يجعل من تلك السمة موضع إعتزاز كونها إشارة إلى التقدم الفكري والرقيّ الإجتماعي، ولكن الأهم في الدلالة على هذا النطاق هو أن الشخصية اللبنانية تلقى حظوظها للسبب نفسه؛ فكأن الشخصيات العربية تقرّ من وراء حجاب بفضل ما تستنكره من سمات الشخصية اللبنانية الحائرة.
ولعل الأدق في التعبير أن السمة ذاتها تحمل ما أشرنا إليه من الدلائل المتناقضة عند التأويل ليس فقط رجوعاً إلى مرجعيات الفريقين المتقابلين؛ وإنما لدى الفريق الواحد كذلك حتى إذا كان يضم سائر الشخصيات العربية في مواجهة واحدة.
الأهم أن موقف الشخصيات العربية من التحرر اللبناني المنمّط لتلك الشخصية - عندما يتجاوز الحدود التي يمكن أن تتجرعها الذائقة العربية السائدة - لا يغدو سبباً للفظ الشخصية اللبنانية جملة واحدة؛ فكأنما تتوسل الشخصيات العربية إلى الجميل المدهش من صفات اللبنانيين ليشفع لهم تجاوزاً عما لا يستطيع الأعراف العربية السائدة إستساغته حتى إذا كان موضع إعجاب أو متابعة خلسة...
لا يتناول هذا الكتاب الشخصية العربية إجمالاً، وإنما هو متداول خلسةً عنها بالتحديد، وبشكل أكثر دقة فإن الكتاب إنما يمثل قراءة متأنية ومتأمّلة في ذلك المتداول خلسة وليس مجرّد كشف إستعراضي له.
المعني هنا الشخصية العربية القومية أو أيّ من فروعها الوطنية بحسب السياق، والمتداول خلسة هو ما آثره المؤلف بوصفه الأكثر دقة في التعبير عن المراد من القول الشائع "المسكوت عنه"، فالمسكوت عنه دلالة على ما لا يقال، وغالباً - إن لم يكن دائماً - بقصد من التعبير ما يتم تناوله خفاءً لا ما يسكت عنه الناس مطلقاً.