... وسعوا لها ساحة الرقص، باعدوا بينهم حتى فرغت الحلبة لها وحدها، وانطلقت في رقصة يمامة برية زرقاء، يشع ثوبها الأزرق اللماع كأن المرايا تسكنه، أسقطت منديلها الأسود الفاحم من على شعرها المحنى، اشتدت الموسيقى سرعتُها، فإزداد توحشها الجميل.كانت ترقص بكل شيء يستطيع أن يتحرك في...
... وسعوا لها ساحة الرقص، باعدوا بينهم حتى فرغت الحلبة لها وحدها، وانطلقت في رقصة يمامة برية زرقاء، يشع ثوبها الأزرق اللماع كأن المرايا تسكنه، أسقطت منديلها الأسود الفاحم من على شعرها المحنى، اشتدت الموسيقى سرعتُها، فإزداد توحشها الجميل.
كانت ترقص بكل شيء يستطيع أن يتحرك في جسمها، من شعرها المحنى، إلى حاجبيها، إلى أخمص قدميها، تدوس الأرض بالكاد، حتى التراب كأنه استفاق تحت خطواتها، كان يشمها ويتعرف على أجزائه الواقفة منه فيها، يتناثر ويعد ذراته شفاها راغبة في لثمها، متسرباً من بين الحُصُرِ والزرابي الحمراء المبسوطة.
كانت ترفرف بأطراف أصابعها في رقصتها الطارقية المدهشة، وكأنها تسبّح بحمد خالقها، ثم اقتربت من صيدها، اقتربت منه كثيراً، لم تلمسه، بل أرسلت بحرارة جسمها المتعرق حوله، كانت روائح الحلي من الأحجار العطرية، والعطور القوية الملتصقة بالجسد، تتطل إلى ذرات تحت حرارة الطقس وطقس الرقص، تملأ عينيه، وفمه، وخياشيمه، ورئتيه، وبطنه، وكيانه، ولتبلغ حتى أعمق جزء فيه... لم تلامسه، اقتربت منه أكثر، ورفعت ذراعيها قريباً جداً منه دون أن تنظر إليه، ثم أرسلت من بين أهدابها برقاً حاداً قاصماً.
ضيقتُ أهداب العين مني هكذا... مثل قوس على السهم، ورميتُه فأصبتُه! دارت حوله متل زوبعة وكأنها تطوقه بنارها، كاد أن يغمى عليه، لم تلامسه أبداً، اقتربت حتى خُيّل له أنهما يتداخلان، كأنها تسمع تنهده وأنينه، لم يعد الحاضرون الكثر حاضرين... غياب هم جميعهم، لم يعد يرى أحداً غير هذه الطارقية ترقص بحفلة طلاقها.