-
/ عربي / USD
تبدو المؤسسات الفرنسية، كجميع المؤسسات، وكأنها في آن واحد النهاية المؤقتة لتحارب الماضي، والصورة الصادقة نوعاً ما للعلاقات الإجتماعية والسياسية والإقتصادية القائمة بين مختلف طبقات السكان.
إن ماضي فرنسا غني بوجه خاص بالتجارب الدستورية. ويمكن القول أن جميع الأنظمة المطبقة في الديمقراطيات المتعددة قد جربت وإنها من جهة أخرى سرعان ما تركت، في معظم الأحيان. وإذا إكتفينا، على ما يبدو معقولاً، بالتقليد الجمهوري وحده فإن النظام الذي يبدو أنه كان أحسن تلاؤماً مع المزاج الفرنسي هو النظام البرلماني. وينبغي مع ذلك أن نوضح أننا لم نشهد في ظل الجمهوريتين الثالثة والرابعة سوى صورة مشوهة لهذا النظام بسبب ضعف الأجهزة التنفيذية أما المجالس التشريعية الفائقة القدر، وعدم الإستقرار الحكومي، هذا الداء المزمن في الجمهورية الثالثة والذي إعتقدنا أننا قضينا في عام 1946 بعقلنة أجهزة النظام البرلماني وإجراءاته عاد إلى الظهور بمثل حدته السابقة، وذلك لأنه كان ينبع من تفتت في الرأي العام نفسه يعزى إلى عوامل عديدة إيديلوجوية وسياسية وإنتخابية، ولأنه لا يمكن أن تعالج دوماً بوسائل حقوقية ذات طابع مختلف.
وكان الشعور بهذه الصعوبات، وبالدرجة الأولى عدم الإستقرار، شديداً بعد الحرب العالمية الثانية لأن بلداناً عديدة، نفتبس أحياناً من تقاليد قديمة جداً، ومزودة أحياناً بمؤسسات حديثة جداً، كانت تكشف في الأسلوب التحرري، عن إمكانية قيام نظام متوازن ومستقر. والحقيقة أن هذه البلدان، في سيرها بإتجاه معاكس للتجارب الفرنسية، كانت لها سلطة تنفيذية قوية ومخولى بالعمل في حين كان الجهاز التشريعي مقتصراً على دور الرقابة لا أكثر. وهذا لا شك فهو أحد العوامل التي دفعت واضعي الدستور في عام 1958 إلى وقف جهدهم الأساسي على تعزيز السلطة التنفيذية وبصورة أدق سلط رئيس الجمهورية تعزيزاً ملموساً جداً. كما أن الممترسة قوت أيضاً هذ الطابع المهيمن على الدستور المتعدد العناصر. وبذلك إبتعد نظام الحكم بإحدى إنتفاضاته المألوفة في بلادنا، عن النماذج التي تحتذى عادة. غير أن التخلي عن النظام البرلماني بدون أن يحل محله نظام رئاسي لا يمر بدون محاذير خطيرة. وأول صفة لنظام الحكم أن يتحاشى أي إحتمال لتجميد المؤسسات، والجمهورية الخامسة تستدعي إنتفادات جدية حول هذه الناحية، ورقاص الساعة لم يجد بعد نقطة توازنه.
وتفوق السلطة التنفيذية الجديد رافقته تقوية عامة جداً لجهاز الدولة، سواء للبنى الإدارية أم لأجهزة وأساليب الإحاطة بالإقتصاد الذي يستند دوماً، من الناحية الرسمية، إلى آليات السوق وحرية حركة المشاريع الخاصة. وعلى مستوى البنى الإدارية يعبر تعزيز الجهاز الحكومي عن النفوذ المتعاظم لتكنوقراطية عديدة، متنوعة مخلفة وذات كفاءة ولكنها في الغالب مبعدة عن الواقع، ويعبر على مستوى المؤسسات الإقتصادية عن الجهود المبذولة للتغلب على الصعوبات الإقتصادية والمالية وعلى خلل النظام الليبرالي والتناقضات والتوترات التي تنطوي عليها تقلبات الرأسمالية. وأعمق من هذا بعد أن يتيح، إذ يجعل توجيه الإقتصاد ممكناً، إرضاء مصالح الفئات الإجتماعية المهنية، جزئياً على الأقل، وهي فئات ذات نفوذ سياسي حاسم، أو بالعكس كبح ضغوطات فئات أخرى وتلك تسعى إلى أن تتضمن لنفسها السيطرة على السلطة في المنافسات السياسة الكبرى، وليس هذا فحسب، بل تحاول التأثير فيها، إما بالتسرب الصامت إلى الجهاز نفسه، على طريقة الأعمال الكبرى، وإما بضغط خارجي، كالتسرب والضغط الذين تمارسهما المؤسسات الصغيرة الصناعية والتجارية والحرفية والفلاحية، أو العمال والطبقات الإجتماعية المحرومة، ولكن بدرجة ممن الفعاليات أقل.
وأمام هذا التعزيز لسلطة الدولة تبدو حماية المواطن ومشاركته في إدارة شؤونه الخاصة في تقهقر. إنه يظل يملك حق التصويت ولا شك كما يملك الحريات الأساسية، ولا شك ايضاً في أن التعددية السياسية تتيح له حرية الإختيار بين مختلف القوى السياسية المتنافسة. ولكن لا يسعنا أن نمسك عن الإشارة إلى عدد من الدلائل المقلقة: فالسلطة والمال يحكمان وسائل الإعلام التي تحكم الرأي العام: ولهذا نجد أن الحريات تفقد كثيراً من جوهرها. ويستمر النظام الحر التقليدي، ولا ريب، ولكنه منذئذ فصاعداً في حالة الدفاع. وإذا إنتقلنا من الصعيد القومي إلى الصعيد المحلي فإن الملاحظة نفسها تصح في اللامركزية الإدارية التي هي مع ذلك أنجح أسلوب لإشراك المواطنين وجعلهم يحملون مسؤرولية ما يعنيهم من ألصق الأمور بهم. فالوحدات الإدارية التي ظهرت، على صعيد المنطقة أو ما هو فوق القرية، أكثر خضوعاً لنفوذ السلطة مما كانت عليه المحافظة والبلدة، وحتى التنظيم القضائي نفسه لم يسلم من أن يبدو، بتعقده وبشيء من عدم الملاءمة، وكأنه لا يكفل الضمانات القديمة نفسها.
وبروح من المحطات السابقة سنعرض، من جهة، جهاز الدولة وتقويته، ومن جهة أخرى، العراقيل والموانع التي لا يزال من الممكن أن ترهق عمله أو تحد منه وبذلك تحمي الفرد. ولن نلح على صعوبة إدخال الموضوع المبحوث في إطار هذا الكتاب.
قيّم هذا الكتاب
هل استخدمت هذا المنتج من قبل؟
لا توجد أي مراجعات بعد