غالباً ما يصار إلى إستقراء التاريخ، نظرة إلى ما جرى في حيثيات الماضي، من خلال قراءة معرفية، كتراكم من أحداث / حدثيات الماضي، بغية إستقاء الدروس من حركة ومحركات الوقائع التي تحولت مادة للإستعادة، ثمة بين الحادثة العابرة، العادية، حوادث سرعان ما يطويها النسيان وبين الحدث...
غالباً ما يصار إلى إستقراء التاريخ، نظرة إلى ما جرى في حيثيات الماضي، من خلال قراءة معرفية، كتراكم من أحداث / حدثيات الماضي، بغية إستقاء الدروس من حركة ومحركات الوقائع التي تحولت مادة للإستعادة، ثمة بين الحادثة العابرة، العادية، حوادث سرعان ما يطويها النسيان وبين الحدث المتميز بقوة الرسوخ في مسار التاريخ، فرق وأي فرق حيث الفعل الشاخص يستوطن الذاكرة على مدى الاجيال المتعاقبة؛ كذلك ثمة فرق شامخ بين الصدفة التاريخية والمعطى التاريخي، بين الحدث العابر ذي الأهمية الضئيلة وذلك الحدث المحرك لفعل. التفاعل العلمي في سياق التاريخ، بتعبير مغاير أن الحدث هو المميز، هو الإستثناء بالقياس للحادث العادي، العابر المكرور الذي لا يؤثر ولا يضيف، ولا يقدم ولا يؤخر فيما يتعلق بمسار الزمن الذي ليس سوى حركة التاريخ، هذه الحركة بجوانبها السالبة والموجبة، السيئة والأقل سوءاً، فيما هو أبعد من "فواتير" الأكلاف والمردودات، إذاً وحدهم صانعوا الحدث الخارق جديرون بدخول التاريخ، إختراقاً من خلال ترك بصمات آثارهم في الذاكرة الجمعية.
فهذه الذاكرة هي حافظة الأعمال المنجزة، لكن لا حافظ متوارثاً من دون تدوين قيد التداول، الكتابة، أوليس التاريخ المقروء هو ذاته المكتوب والعكس بالعكس صحيح أيضاً، ما بين صانع الحدث ودرجة أهمية الحدث من جهة، ومدوّن الحدث التاريخي من جهة أخرى تنهض الإشكالية.
فتفكيك إشكالية التدوين هو الجدير بالتأمل لا من حيث نوعية تناول أَأْرخة الموضوع فحسب، بل وخاصة إستقراء واقع التكوين الإجتماعي والثقافي، بالإضافة إلى الإنتماء الظرفي الزمني والبيئي المكاني للمؤرخ، فهل من تاريخ دون كتبة؟ وهل ثمة وسيلة - معيارية لرصد صدقية هذا الكاتب، المدَوِّن، أو ذاك، وعند الإقتضاء اللجوء إلى رواية "مغايرة" للوصول إلى مقارنة تناول وتداول حدث تاريخي معين سواء ارتبط أم لا، بشخص فاعل الفعل التاريخي نفسه؟...
ضمن هذه المقاربات تأتي هذه الدراسة التي انطلقت ببداعتها المتعددة، لا من علاقة الأمم بتواريخها الخاصة فحسب؛ بل بمدى قابليتها - التأهيلية لتجاوز هذه الخصوصية بتداعياتها الهوياتية لتتبوأ موقعاً لها في سياق التاريخ الأشمل الإنساني الكوني، وبالإضافة إلى ذلك فإن هذه الدراسة تأتي في سياق دراسات سابقة لتواصل ما التزمه الباحث في مسار تنشيط "ورشة" التعمق في حيثيات، مكونات الذهن العربي المأزوم بإختبارات التحولات التاريخية.
وهو، إلى هذا، لم يعمد إلى حصر الأعضال الفكري بتحقيب زمني محدد؛ بل اعتمد الباحث في دراسته هذه على منهج إستعادة الأوليات، البنى المؤسسية لمسار تكوين هذا الفكر (العربي) وتطوره مع ملاحظة جديرة بالتنويه: إشكالية تحريك آليات الإرادة - الممكنة التي يراها الباحث بمثابة ديون الأمة الحيّة الساعية إلى الإفاقة والنهوض فالإلتحاق بمدارات التاريخ الكوني.
وقد حاول قدر المستطاع، وتأسيس مقاربات بين التاريخ (الخاص والمتفاعل كونياً) كحركة مستدامة، محاكاة الآفاق الإنسانية تخطباً لمحددات، خصوصيات تنوّع الهوية وصولاً إلى التموضع العربي ضمن دوائر هذه الإعتبارات، من حيث الإرتقاء والإنكفاء، فالتأزم الحضاري هو في المحصلة ذو علاقة مباشرة بنواتج العطاء الفكري في مجاله المتعقل، عن طريق مراجعة (أو مراجعات) تقويم الذات من جهة، وعلائق الوصل والفصل، التواصل والفواصل مع الآخر، المختلف - الآخرية (Altérité) من جهة أخرى.
بالإضافة إلى ذلك توقف الباحث عند نقاط وهي: بيان أهمية التاريخية (تشيؤ المدن إلى تاريخ) لا كحقل معرفي فحسب، بل وكذلك التأمل في نسبية المفاهيم التي تتحكم بمقاصد التدوين، عملية ما أطلق عليه تعبير الأَأْرخة، (توثيق الوثيقة) كنص مرجعي نهائي غير قابل للجدل، فبخلاف علم آثار (الحفريات) الذي يبقى بدوره بعيداً عن قطعية الإستقراء، فالوثيقة نتاج عمل إنساني وما يتحكم به من مشاعر وثقافة وغايات، المصلحة، المنفعة، ربما على حساب الموضوعية.
وعليه، فإن ما قامت به هذه الدراسة هو توجيه التركيز على ربط المسافات الكرونولوجية للفكر العربي عبر محطات تحولاته مع ما علق به من مؤثرات قابلة للسجال لكني بالتقليل، ما أمكن، من تدخل الباحث المباشر وإصدار تقويمات رأيه الشخصي، إذ هو يرى أنه بقدر ما يأتي حضور المؤلف ضرورياً لجهة نوعية تعامله مع النص، فهو غير معني في تنصيب نفسه قيِّماً متورطاً في توزيع الإستدلال الشخصي وبدرجة أقل التنظير الأيديولوجي.
أما النقد الوجيه المسنود فهو من مقومات الدور المناط به، إنطلاقاً من هذه القناعة في كون الباحث معنياً في أداء مثل هذا الدور، فقد تعرض أن تأتي قراءة النصوص والتعقيب عليها، في التقويم الموجب أو السالب، في السياق الآيل للنظرة المتأنية في فحص الفكر التاريخي العربي الإسلامي، أنه غير مستثنى عن أنماط الفكر الأخرى، من حيث المنطلقات والتداعيات، بالروابط التي تشده إلى الزمنية، الدهرية في سياقات تأصيل أصول الثوابت، الرواسخ وتلك القابلة لشفافية طواعية المتحرك.
وأخيراً وبالرغم من كون المؤلف جزءاً معنياً بأية محاولة معرفية في سياق إنهاض؛ إيقاظ الفكر العربي، خاصة في عصر الإرادة المأزومة على أمل إحياء إنطلاقة مستجدة في أصالتها، فقد ارتأى الإبتعاد عن سرديات التسطيح التفاؤلي أو التشاؤمي، مشاعر قنوط الإكتئاب أو إنشراح الإغتياط، فليس المطلوب من ذي التفكير أو المثقف أن يكون عرّافاً بالغيب أو قارئاً في تجليات الإبصار للآتي المقبل إلا في حدود الإحتمال التقريبي الذي يظلّ قابلاً للصواب والخطأ.