"في ساعات الصباح الأولى من 20 تشرين الثاني/نوفمبر 1979، ظهرت مجموعة من الرجال المسلحين الغلاظ الأشداء في ساحة المسجد الحرام في مكة، وبعد أن أطلقوا الرصاص في الهواء تقدموا بسرعة نحو الكعبة ووصلوا إلى الإمام الكهل الذي سيؤمَّ المصلين في صلاة الفجر، ودفعوه جانباً ملوّحين بخنجر،...
"في ساعات الصباح الأولى من 20 تشرين الثاني/نوفمبر 1979، ظهرت مجموعة من الرجال المسلحين الغلاظ الأشداء في ساحة المسجد الحرام في مكة، وبعد أن أطلقوا الرصاص في الهواء تقدموا بسرعة نحو الكعبة ووصلوا إلى الإمام الكهل الذي سيؤمَّ المصلين في صلاة الفجر، ودفعوه جانباً ملوّحين بخنجر، ثم أمسك رجل ذو لحيةً كثيفة، بدا كأنه قائدهم، بالميكرفون وصاح بتعليمات لرفاقه الذين كانوا مشتتين داخل المسجد الحرام. أغلقوا بسرعة كل البوابات واتخذوا مواقع مناسبة تمكنهم من إطلاق النار بسهولة من المنارات، ومن مواقع إستراتيجية أخرى. وهكذا احتل هؤلاء المتمردون أقدس موقع إسلامي، وتم إحتجاز عشرات الآلاف من المصلين داخل الحرم. هكذا بدأ تمرد مكة الذي يعتبر من أكثر أحداث القرن العشرين إذهالاً ومأساوية التي وقعت في المملكة العربية السعودية؛ إن لم يكن في أنحاء العالم الإسلامي كافة، ولمدة أسبوعين كاملين بقي الحرم المكي تحت حصار قوات الأمن السعودية التي كانت تحاول بصورة محمومة إستعادة السيطرة على المسجد الحرام من هؤلاء المتمردين المجهولين. وعندما تمت السيطرة على الوضع وإستعادة النظام في 4 كانون الأول/ ديسمبر 1979، كان هناك مئات من القتلى، لم يسبق من قبل أو حتى من بعد، أن أريق مثل هذا القدر من الدماء في مكان العبادة المقدس هذا، وفي الأسابيع التي تلت إنتهاء التمرد زال بعض الغموض عن هذه الحادثة عندما تم التعرف رسمياً على المتمردين الذين اتضح أنهم فعلاً من المسلمين السنّة الذين يتبعون عقيدة سلفية، ومعظمهم من السعودية، وكان يقودهم رجل سعودي قبلي اسمه جهيمان العتيبي.
وهكذا وعلى الرغم من كون حادث إقتحام المسجد الحرام في مكة من قبل جهيمان العتيبي هذا وأتباعه المتمردين من أكثر الأحداث غرابة وإدهاشاً في التاريخ الحديث للسعودية؛ ولكنه يعتبر أقل الأحداث وضوحاً وفهماً، وحتى بعد مرور عقود على هذا الحدث لا تزال هناك أسئلة مهمة من دون إجابة واضحة، فما زال الغموض يلف أصل هذه الجماعة المتمردة.
من هنا تأتي أهمية هذا الكتاب الذي يقدم إضاءات فكرية وخلفيات معرفية هامة وموثقة حول هذه الجماعة المتمردة، لقد حاول كتّاب قليلون، وخلال العقود التالية، العودة إلى تمرد مكة والتحدث عنه، ولكن بسبب غياب مصادر رئيسة موثوقة لم يستطع أحد أن يجيب عن أكثر الأسئلة أهمية وهي "من هم المتمردون؟" وماذا كانوا يريدون؟...
الإفتراض السائد كان أن هؤلاء المتمردين يمثلون نسخة سعودية من الحركات الثورية الإسلامية التي أزعجت مصر وسورية في تلك الفترة نفسها تقريباً، متمردو مكة أثبتوا، وحسب الجدل السائد، وجود حركة إسلامية سعودية تهدف للإطاحة بنظام آل سعود، ولكن القليلين فقط استطاعوا شرح لماذا اختار المتمردون أن يهاجموا، من ضمن جميع الأهداف الأخرى الممكنة داخل السعودية، المسجد الحرام في مكة.
إضافة إلى ذلك، تفاصيل الحصار نفسه خضعت لتخمينات كثيرة، كم عدد القتلى الإجمالي؟ هل تدخلت قوات فرنسية خاصة؟ وهل استعملوا أسلحة كيميائية لقتل المتمردين؟ لقد استغرق الأمر إلى العام 2003 للبدء بمعرفة ما حدث فعلياً، في تلك السنة كتب ناصر الحزيمي، الذي كان ناشطاً في الجماعة بين عامي 1976 و1978 ولكنه ترك الجماعة قبل سنة من عملية مكة، كتب الحزيمي سلسلة مقالات في جريدة الرياض السعودية عن تجربته كعضو سابق في جماعة جهيمان، وهكذا ولأول مرة تم الحصول ومنذ 54 عاماً على رواية داخلية عما حدث.
لقد كان قد تم القبض على ناصر الحزيمي بعد تحقيقات الشرطة وقضى ثماني سنوات في السجن، حيث تيسر له الحصول على معلومات تفصيلية عن الحصار من المتمردين المسجونين الذين شاركوا في العملية، وقد تخلى الحزيمي لاحقاً عن أفكاره المتطرفة وعمل صحافياً في جريدة الرياض، وفي حدود ذلك الوقت، بدأت السلطات السعودية بالسماح للأكاديمين والصحافيين الأجانب بدخول البلد وإجراء بحوث ميدانية مستقلة.
لذا استطاع مؤلف هذا الكتاب "توماس هيغهامر" و"ستيفان لاكروا" التواصل مع الحزيمي، وأجريا هذه الدراسة حول تمرد مكة من داخل المملكة، حيث نشرا نتائجها في مقالة في "المجلة الدولية لدراسات الشرق الأوسط" والتي مثلت الفصل الأول في هذا الكتاب، والذي يمثل بدوره نسخة منقحة ومزيدة لتلك المقالة وقد وصلوا في إستنتاجاتهم إلى أن تمرد مكة قامت به طائفة مهدوية كانت تعتقد بصدق محمد القحطاني في كونه المهدي بالفعل الذي في مبايعته في مكة في مطلع القرن الهجري، سيعلن حلول القيامة ونهاية العالم... وإن هذه الجماعة المتمردة كانت قد تأثرت بصورة عظيمة بأفكار الشيخ محمد ناصر الدين الألباني (1914- 1999). وقد كانت سيرته محور الفصل الثاني من هذه الدراسة وجاء تحت عنوان "تأثير الشيخ الألباني في تشكيل السلفية المعاصرة"، أما الفصل الثالث والأخير في هذا الكتاب فقد شمل عدداً من الملاحق الهامة والموثقة.