يسعى هذا الكتاب لتوثيق الروابط بين علم اللغة ونطاق واسع من الحقول المعرفية التي يرتبط بها هذا العلم بما فيها علم الأنثروبولوجيا وعلم الاجتماع والدراسات الحضارية والبلاغية والسياسية والدراسات التواصلية وعلم النفس والدراسات الأدبية والفلسفية، فهو يضم بين دفتيه فصولاً عن...
يسعى هذا الكتاب لتوثيق الروابط بين علم اللغة ونطاق واسع من الحقول المعرفية التي يرتبط بها هذا العلم بما فيها علم الأنثروبولوجيا وعلم الاجتماع والدراسات الحضارية والبلاغية والسياسية والدراسات التواصلية وعلم النفس والدراسات الأدبية والفلسفية، فهو يضم بين دفتيه فصولاً عن الآراء اللغوية ليس لعلماء اللغة المحترفين وحدهم وحسب بل لعلماء النفس (من أمثال برونر وسكنر) وعلماء الأنثروبولوجيا (سابير) وعلماء الاجتماع (جوفمان) والمنظرين النقاد (دريدا) والفلاسفة (أوستن وفيتجنشتاين) ومهندس يعمل في مجال التأمين ضد الحريق (ورف) وكاتب روائي (أورويل). كما أن هناك فصلاً عن تداعيات جهود علماء الحيوانات الثديية -على النظرية اللغوية- في تدريس القردة اللغة. وربما أهملت كتابات معظم هؤلاء المفكرين أو أغفلت تماماً في الكتب التي ألفت في تاريخ الفكر اللغوي في القرن العشرين. ولعل واحدة من المسائل المهمة التي شغلت المفكرين في القرن العشرين هي مسألة تأثير اللغة في الفكر وكيف يحصل مثل هذا التأثير؟ وما تداعيات ذلك التأثير؟ ونجد أن معظم فصول الكتاب تتناول جهود المفكرين من أمثال سابير وورف وأوستن وأورويل وفيتجنشتاين ودريدا في رسم حدود تأثير اللغة في الفكر. وتحاول هذه الفصول الإجابة على الكثير من الأسئلة التي تتعلق بالمسائل اللغوية التي شغلت بال الكثير من علماء اللغة على مدى قرون.
يستعرض الفصل الأول جهود العالم اللغوي -الأنثروبولوجي الأمريكي سابير ويناقش كتابة "اللغة" الذي يعد بمثابة أول دراسة عامة للغة استحوذت على اهتمام واسع. حيث تقدم هذه الدراسة عرضاً غنياً ميسراً للغة تمتد جذوره في الحضارة، التي توضح رؤيته الناضجة للغة والحضارة والشخصية. وقد طور سابير نظرية لغوية وسطى بين الحضارة وآليات مدرسة النحاة الجدد. ويتطرق الفصل الثاني إلى آراء رائد الحركة الشكلانية وواحد من أركان المدرسة البنيوية رومان ياكوبسن الذي يستحق التقدير لإدراكه التناقض الذهني بين الاعتباطي والطبيعي ومحاولته حل ذلك التناقض كما نجده في برنامج البنيوية.
ويسرد الفصل الثالث محاولات الروائي البريطاني جورج أورويل تفسير العلاقة بين اللغة والسياسة ومناقشة كون اللغة مؤسسة يمكن التحكم فيها واستغلال اللغة أبشع استغلال على يد الطغاة المستكبرين. ويناقش الفصل الرابع إسهامات ورف في البحث في مجال العلاقة المتبادلة بين اللغة والفكر وما يعرف بفرضية سابير-ورف التي تشير إلى أن الطريقة التي نفكر بها تصوغها -أو تحددها- اللغة التي نتحدث بها. كما يشير الفصل إلى أهمية أعمال ورف ذاتها في إذكاء الاهتمام في واحدة من أكثر المسائل أهمية تلك التي يمكن إثارتها في مجال دور اللغة في الشؤون الإنسانية. ويلقي الفصل الخامس الضوء على برنامج فيرث النظري الذي يعد بتفسير الحدث الكلامي ويتناول وجهة نظره الخاصة بالطريقة التي تعمل بها اللغات: أي الطريقة التي توفر فيها هذه اللغات لمستخدميها الوسيلة في التواصل.
ونقرأ في الفصل السادس تحليلاً مفصلاً لأفكار فيتجنشتاين وطريقته في ربط المناهج الفلسفية باللغة. وقد طور فيتجنشتاين منهجاً لدراسة المشاكل الفلسفية يعتمد على تحليل الوسائل الرمزية التي تصاغ بوساطتها مفاهيم تلك المشاكل. ويطرح كتابه "رسالة في المنطق والفلسفة" نظرية في التمثيل الرمزي وهي نظرية عن إمكانية تمثيل الحقائق والأشياء والأوضاع القائمة التي تشكل "العالم الواقعي" بوساطة اللغة وصيغ أخرى من الرمزية. ويسبر الفصل السابع غور نظرية الأفعال الكلامية التي أرسى دعائمها جون أوستن ويستعرض الفصل محاولة أوستن إعادة توجيه الاهتمام إلى اللغة كونها مجموعة من الأنماط السلوكية المترسخة في الحياة الاجتماعية للكائنات البشرية، وقد قارب أوستن هذه المسألة من زاوية جديدة جديرة بالاهتمام حيث إنه نظر إلى اللغة على أنها شكل من أشكال النشاط.
ويقدم الفصل الثامن عرضاً لإسهامات ب.ف.سكنر مؤسس المدرسة السلوكية من حيث إنها مقيدة بدراسة الأفعال التي يمكن ملاحظتها بموضوعية من غير أية تأملات تتعلق بالعمليات الذهنية. ويميز سكنر بين منهجه ومنهج علماء اللغة الذين عاصروه ويوحي بأنهم مهتمون بالشكل بينما يهتم هو بالوظيفة -حيث إن اهتمامهم ينصب على ممارسات المجتمعات اللفظية بأكملها واهتمامه ينحصر في سلوك المتكلم الفرد ويؤكد هذا الفرق ليفسر المسافة التي تفصل بينه وبين علماء اللغة.
ويسجل الفصل التاسع أهم آراء تشومسكي الخاصة باللغة ومنهجه الذي يلقي الضوء على تنظيم القدرة العقلية عند الإنسان على اكتساب اللغة. ويقدم الفصل سرداً وافياً لمسيرة البحث العلمي التي يقودها تشومسكي منذ الخمسينيات من القرن الماضي، حيث لم يكن لتأثيره في الأفكار الأكاديمية في مجال اللغة ما يضاهيه على يد أي من العلماء المعاصرين. ويتطرق الفصل العاشر إلى منهج لابوف في التباين اللغوي ويعرض تقييماً لبحوثه في مجال علم اللغة الاجتماعي.
ويعالج الفصل الحادي عشر أفكار جوفمان في مجال المحادثة والكيفية التي يتواصل فيها الناس مع بعضهم في التفاعل الاجتماعي وجهاً لوجه. ويعد جوفمان رائداً مؤسساً للدراسة الأكاديمية للتفاعل من خلال المحادثة (وهو موضوع أسماه "الحديث"). وقد نما هذا المجال المعرفي باستمرار ليصبح واحداً من أكثر المواضيع حيوية في النظرية اللغوية الغربية. ويناقش الفصل الثاني عشر نظرية برونر في مجال اكتساب الأطفال لغتهم. ويحاول الإجابة على عدد من الأسئلة التي ما زالت تبحث عن جواب شاف. ويطرح برونر أسئلة مثل: لم يجيد الأطفال فعل شيء يبدو أنه يربك المتعلمين الراشدين؟ كيف يتعلم الأطفال لغتهم؟ وقد أصبحت هذه الأسئلة مركزية بالنسبة للبحث العلمي في مجال اللغة. وأصبح الكثير من علماء اللغة يعتقدون أنه لا يمكن قبول أي تفسير نظري للخواص المركزية للغة ما لم يكن قادراً على تفسير كيف يستطيع الأطفال تعلم اللغة بعفوية وبسرعة فائقة.
ويتناول الفصل الثالث عشر أفكار الناقد التفكيكي جاك دريدا وتفسيره العلاقة بين الإشارة اللغوية والأشياء التي تشير إليها وذلك من خلال الصياغة الفلسفية ضمن تقليد الظاهراتية لمسألة مركزية مثل: هل بالإمكان الوصول إلى فهم الحقيقة المستقلة عن اللغة التي يصاغ فيها ذلك الفهم؟ وكيف؟ ويقدم لنا الفصل جزءاً من المصطلحات النقدية المهمة التي استخدمها دريدا مثل الأثر والمعنى السطحي فضلاً عن المصطلحات الراسخة في علم اللغة الحديث مثل الدال والمدلول عليه.
ونقرأ في الفصل الرابع عشر محاولة هاريس رسم ملامح علم اللغة بوضوح واعتماد تعريف علمي رصين لهذا العلم. كما يحاول هاريس رسم العلاقة بين علم اللغة واللغات. ويتبنى هاريس مبدأ أن دراسة اللغة مرتبطة جوهرياً بدراسة التواصل بوساطة الإشارات سواء أكانت لغوية أم غير ذلك.
ويركز الفصل الأخير من هذا الكتاب على تعليم الحيوانات اللغة لا سيما القردة. وهذا موضوع كثر فيه الجدل ويبدو فيه اختلاف علماء اللغة واضحاً. ويعرض الفصل ادعاءات الباحثين في هذا المجال وكيف أن قسماً منهم أفلح في تعليم قردة الشمبانزي اللغة بعد أن اكتسبت هذه الحيوانات عدداً لا يستهان به من المهارات اللغوية المتقدمة.