تنطلق هذه الدراسة من وجهة نظر ترى أنه لكي تتحقق لدينا الدارية الكافية بما أنجزته المعرفة اللغوية في ظرفها التاريخي القديم، فلا بد أن يكون النظر إلى هذه المعرفة اللغوية في ظرفها التاريخي القديم، فلا بد أن يكون النظر إلى هذه المعرفة متسماً بالشمول وألإحاطة بحيث لا يقف عند من...
تنطلق هذه الدراسة من وجهة نظر ترى أنه لكي تتحقق لدينا الدارية الكافية بما أنجزته المعرفة اللغوية في ظرفها التاريخي القديم، فلا بد أن يكون النظر إلى هذه المعرفة اللغوية في ظرفها التاريخي القديم، فلا بد أن يكون النظر إلى هذه المعرفة متسماً بالشمول وألإحاطة بحيث لا يقف عند من صنفتهم كتب التراجم والطبقات تحت عنوان "اللغويين" و"النحاة". ومع التسليم بأهمية جهود هؤلاء وقيمتها، فإن ثمة معالجات وتأملات تتسم بقدر كبير من العمق والأصالة وحسن التمثل للثقافات الوافدة لدى بيئات فكرية أخرى كالمتكلمين والأصوليين والمفسرين والفلاسفة وغيرهم.
ويعتقد الباحث أن الإحاطة بجهود هؤلاء جميعاً تعطي صورة دقيقة ومتكاملة عن الفكر اللغوي العربي. ومن ثم فهذه الدراسة ترمي إلى تقديم نموذج متميز يمكن أن يقال عنه إنه يمثل حصيلة مركزة للفكر الكلامي والأصولي والتفسيري والفلسفي في تراثنا القديم، وهذا النموذج هو "تفسير فخر الدين الرازي للنص القرآني"، ولقد اختار الباحث أن يقف عند جانب معين من جوانب هذا "التفسير الكبير"، وهو جانب البحث الدلالي. ولا شك أن لهذا الاختيار دوافعه مما سيتضح خلال سياق تمهيد هذه الدراسة.
ولعله من الأمور التي يدركها المشتغلون بتاريخ الدرس اللغوي العربي أن البحث في طبيعة الدلالة ونظرية المعنى وقضاياه لم يفرد لها في تراثنا القديم ومؤلفات متكاملة مستقلة، وإنما جاءت تصوراتهم ومفاهيمهم ومعالجاتهم متناثرة في سياقات تأليفية مختلفة. فعلى سبيل المثال جاء بحث ما يمكن أن يشكل جزءاً مما يسمى الآن بـ"علم الدلالة البنيوي" في إطار المؤلفات النحوية تارة، وفي إطار علوم البلاغة تارة أخرى، فضلاً عن معالجات علماء الكلام وعلماء الأًول لدلاليات التركيب القرآني، ومعالجات النقاد لدلاليات التراكيب الشعرية. كما قد جاء ما يمكن أن ينتمي إلى قضية "المجالات الدلالية" ضمن رسائلهم ومعجماتهم في ألفاظ مدلولات مختلفة: كالشجر والنبات والخيل والمطر وغير ذلك. وفي بعض الأحيان أفردت لبعض القضايا الدلالية الجزئية رسائل مختلفة، وذلك مثل كتاباتهم في الترادف والمشترك والأضداد وغير ذلك.
وعلى أية حال فإن هذه الدراسة التي يقدمها الباحث قد حاولت أن تتبنى منهجاً يتوافق والمعطيات الأساسية للمعرفة اللغوية عند علمائنا القدماء من خلال تجسيد فكر الرازي لهذه المعرفة، ومن ثم فقد جاءت مباحثها وفصولها مرتبة على النحو التالي: التمهيد: وفيه عرض الباحث لمصادر الدراسة، ومنهجه في بحث الموضوع، والدراسات التي سبقت حول الجوانب اللغوية في فكر الرازي.
القسم الأول: وقد جاء تحت عنوان: " الأطر الدلالية ومقومات مفهوم اللغة"، وفيه تم تناول المنطلقات الفكرية الأساسية التي وجهت معالجة الرازي لقضية الدلالة، ومن ثم كان الفصل الأول في معالجة "الإطار الاشتقاقي" الذي تمثلت فيه رؤية الرازي للعلاقة بين اللغة والعالم الخارجي. وكان الفصل الثاني في معالجة "الإطار العقلي"، وفيه تمثلت رؤية الرازي للعلاقة بين اللغة والعقل. وجاء الفصل الثالث في معالجة "الإطار الثقافي"، فيه تمثلت رؤيته لعلاقة اللغة بالمجتمع والتغير الاجتماعي.
القسم الثاني: وقد جاء تحت عنوان "في دلاليات أنواع الكلم". وقد بدأ بتوطئة حول مفاهيم "الكلمة" و"الكلام" و"اللفظ" و"المستعمل" و"المهمل" عند الرازي. ثم تلا ذلك الفصل الأول وهو في دراسة "دلاليات الاسم": تعريفاته وأنواعه وأحكام كل نوع وارتباطه بمقولات الجنس والعدد والتعيين، ثم كان الفصل الثاني في "دلاليات الفعل والحرف"، وفيه نوقشت التعريفات السابقة على الرازي، ثم تعريفاته الخاصة، كما عولجت قضية دلالة الفعل على النسبة، ودلالته على الزمن، وغير ذلك من القضايا المتعلقة بهذين النوعين من أنواع الكلم، ثم جاء الفصل الثالث وفيه عولجت بعض ظواهر اللغة الطبيعية، كالترادف والاشتراك، كما عولجت قضية وضوح اللفظ وخفائه من حيث دلالته على مدلوله.
القسم الثالث: وقد جاء بعنوان "في دلاليات التراكيب"، وقد بدأ –كسباقه- بتواطئه حول تقسيم الرازي لأنواع الكلام حسب وظائفها الدلالية. ومن ثم جاء الفصل الأول في دلاليات التركيب الإنشائي: الاستفهام والأمر والنهي والقسم والتعجب والمدح والذم. ثم تلا ذلك الفصل الثاني في دلاليات "التركيب الخبري" معالجاً فكرة "الإخبار"، واصتالها بقضية "التحقق الخارجي"، ثم تناول هذا الفصل قضية الإخبار بالجملة الإسمية، والإخبار بالجملة الفعلية، وانتهى إلى تناول بعض المخصصات الدلالية كالنواسح والصفة والاستثناء. وفي الفصل الثالث الذي جاء بعنوان "التركيب الشرطي" تم تناول معالجة الرازي لدلاليات هذا التركيب، وربطه له بقضية التعليق والاحتمال، وصلته بالزمن المستقبل، والفروق الدلالية بين أدواته وغير ذلك من القضايا الجزئية.
الخاتمة: وقد جاءت مجملة لنتائج البحث مع التركيز على أهم المبادئ الدلالية التي ارتكن إليها الرازي.