ترمي هذه الدراسة إلى رصد الأنظمة السيميائية في السرد العربي القديم، وهي إذ تعين مجال اشتغالها هذا، فلأنها تنطلق من تصور منهجي يرتبط بالأدب العربي القديم الذي هيمنت فيه المدونة الشعرية، مما يعني أن الثقافة العربية الحديثة قد انحازت، إبداعياً، إلى الشعر، ومسوغات هذا...
ترمي هذه الدراسة إلى رصد الأنظمة السيميائية في السرد العربي القديم، وهي إذ تعين مجال اشتغالها هذا، فلأنها تنطلق من تصور منهجي يرتبط بالأدب العربي القديم الذي هيمنت فيه المدونة الشعرية، مما يعني أن الثقافة العربية الحديثة قد انحازت، إبداعياً، إلى الشعر، ومسوغات هذا الإنحياز عديد الحصى، أهمها: أن الثقافة العربية، في أصل قيامها، ثقافة شفهية اعتمدت الرواية سياقاً تواصلياً، كما أن بنية المجتمع العربي، في ذلك الزمن، كانت مغرقة في البداوة وهو سياق اجتماعي وثقافي يمجد القبيلة وشروط عيشها. إضافة إلى ذلك، فإن انحياز الثقافة العربية للشعر كان بسبب حاجة العرب إليه بوصفه نظاماً لسانياً يدعم نظام الكتابة الذي تأسس عليه النص القرآني الذي كان أول كتاب يجمع بين دفتين.
إن انتقال المعرفة العربية من الرواية إلى التدوين أدى إلى حدوث مراجعة شاملة للمعارف والمفاهيم التي أنتجتها الثقافة العربية، وفي هذه النقطة، تحديداً، يأخذ السرد تعيينه ومعناه، فالسرد ليس ذلك الشكل المختص بالنثر، أو القصة أو الحكاية، فهذه الأشكال تعد نماذج سردية ختامية، وإنما السرد هو المنظومة المعرفية التي تصوغها المجتمعات عبر مراحل تطورها وسيرورة مفاهيمها الثقافية تعبيراً عن موقفها من الله، والكون، والإنسان، ويندرج في هذا الإطار الممارسات، والمعارف، والهموم، والأشواق، والهواجس، والخسارات.
وتنطوي هذه المادة السردية المنثورة في المدونات القديمة على مضامين معرفية غنية بالتجارب والقصص والحكايات، فهي ليست مادة إمتاع وتسلية ومؤانسة وإنما خطابات تتضمن مواقف ومفاهيم وتصورات تكشف عن أبنية الوعي العربي وأنظمته العميقة.
يسعى السرد بوصفه معرفة إلى تجاوز النماذج التقليدية، تلك التي تم الاعتراف بها وإقرارها مثل: القصة، والخبر، والحكاية، والمقامة... ليتجه نحو استيعاب النماذج الأدبية المختلفة المتمثلة في التجليات النصية، والمرويات اللسانية الكبرى التي مثلت، هي الأخرى، حاضناً إبستمولوجياً لأنساق الثقافة العربية.
وتعتمد الدراسة، التي نحن بصددها، أساساً نظرياً ثابتاً وهو الكشف عن الأنظمة السيميائية في السرد العربي القديم، من خلال عناوين فصول الدراسة، فعناوين الفصول هي المحددات النظرية التي تنهض عليها الدراسة، أي أن الأنظمة السيميائية سيتم كشفها من خلال التجليات النصية التي تتخذها الدراسة عينة في التحليل، والكشف، وهي: تمثلات الأسطورة، وتمثلات السلطة، وتمثلات الأنسنة، وتمثلات الجنس.
وبناء على ذلك، تتأسس فرضية الدراسة، وهي أن السرد العربي القديم ينتظم وفق أنظمة سيميائية تكشف عن بنى معرفية عميقة تمثل علاقات دلالية متلاحمة من جهة، وكاشفة من جهة أخرى. فأما وجه تلاحمها فيتمثل في طبيعة تشكيل الأنظمة وتعاضدها، فهي تجسد روابط الوعي والثقافة، وأما وجه كشفها فيتمثل في الرصيد المعرفي الذي تمدنا به والخبرات الثقافية التي تزودنا بها، الأمر الذي يعني أن السرد خطاب زاخر بالمقولات والمعارف الكبرى التي إن تم فحصها واستثمارها، أدى ذلك إلى تزويدنا بذخيرة ثقافية ومعطيات دلالية ستدفع نحو فهم ذاتنا الثقافية وتحولاتها فهماً دقيقاً، إضافة إلى توسيع دوائر الاحتجاج، فالاقتصار على الشعر سيظل مفتقراً إلى التمثيل والتدليل، فالسرد على هذا النحو "أشكل بالدهر"، لأنه يتضمن مواقف الإنسان وسيرورتها في الزمان والمكان. كما أن من شأن هذا الشغل أن يعيد الاعتبار إلى المدونة السردية التي ساهمت، إلى جانب الشعر، في صياغة المفاهيم الثقافية، وتشكيل الرؤى والتصورات المرتبطة بالإنسان العربي.
أما جانب أهمية هذه الدراسة فيتمثل في غياب دراسة تتناول الموضوع الذي تسعى إلى مقاربته، والمنهج الذي تتوصل به، فبالرغم من كثرة الدراسات التي تناولت السرد العربي القديم إلا أنها كانت تعتمد على مقدمات جاهزة، وأطر رائجة درست السرد دراسة تاريخية أو داخلية مغلقة.
لذلك، فإن هذه الدراسة تتخذ لنفسها مساراً مختلفة، وأسئلة جديدة، ووعياً مفارقاً، فهي تحاول الاشتغال في نصوص السرد العربي القديم بوصفها ركاماً سيميائياً، وكنزاً من الأسئلة والتحولات والمعارف، التي إن تم توصيفها كان بالمقدور إعادة تعيين الزاوية التي ننظر من خلالها إلى النص الثقافي العام.
وتقوم الدراسة على مقدمة وسبعة فصول، تتضمن المقدمة الرؤية المنهجية التي يصدر عنها مرتاض، وهي تقوم على استثمار النظريات "الغربية"، التي تقوم على أسس علمية، ثم الإفادة من المعطيات التراثية. ونأخذ على عمل مرتاض تجاوزع عن التحديدات المنهجية، إذ إنه لم يعرض للجهاز النظري والمفاهيمي، واكتفى بمقدمته برؤية منهجية ضبابية أو كاد.