يشكل كتاب الدكتور وائل حلاق "تاريخ النظريات الفقهية في الإسلام، مقدمة في أصول الفقه السني" نظرة جديدة للخطاب النظري حول أسس التنظير الفقهي. فالكتاب يبدأ من الفترة التأسيسية مؤكداً على تأثير "رسالة" الشافعي في نهايات القرن الثاني للهجرة وفي بدايات القرن التاسع الميلادي. انصب...
يشكل كتاب الدكتور وائل حلاق "تاريخ النظريات الفقهية في الإسلام، مقدمة في أصول الفقه السني" نظرة جديدة للخطاب النظري حول أسس التنظير الفقهي. فالكتاب يبدأ من الفترة التأسيسية مؤكداً على تأثير "رسالة" الشافعي في نهايات القرن الثاني للهجرة وفي بدايات القرن التاسع الميلادي. انصب اهتمام الشافعي على ربط السنة النبوية بالأوامر القرآنية والنظر إليهما على أنهما أساس الجهد الفقهي السني. إلا أن المشكلة الأساسية لم يعالجها الشافعي، فجهوده انصبت على أصول الفقه وعلى بحث أولي في أسس المعرفة والعلاقة بين النصين: القرآن والسنة. وفي مرحلة ما بعد الشافعي تحول الاهتمام إلى الأشكال المتعددة للتفكير الفقهي والتي أدخلت في التعابير الثقافية للإمبراطورية الإسلامية الممتدة من أجل استيعاب الظروف الطارئة في الجزيرة العربية. فقد كان هناك طرق عدة واختلافات في الفلسفة الأخلاقية والنظرة إلى العالم غير مألوفة عند الشافعي وتلامذته. وتطور مشروع أصول الفقه لاحقاً، آخذاً في الاعتبار قضايا معقدة أخرى كاللغة والفلسفة الأخلاقية ونظريات المعرفة. ويترك الدكتور حلاق الباب مفتوحاً في مقدمته من أجل اكتشاف ما حصل لأصول الفقه. لهذا، يبدو هذا الكتاب من أهم المداخل إلى علم الأصول.
إن تاريخ علم الأصول ما زال محط تخمين بسبب عدم وجود محاصيل عامة وشاملة ومتراكمة خلال الفترة التأسيسية من القرن الثالث/التاسع إلى القرن السابع/الثالث عشر. إلا أن الدكتور حلاق يتخطى القراءات المتفق عليها في النصوص الإسلامية المعاصرة التي تعالج تاريخ الفقه الإسلامي.
يحاول حلاق ملاحقة كيفية توسع التفكير الفقهي في القرن الخامس/الحادي عشر، فيجد أنه كان من أهم مفكريه الإمام الغزالي. وبالعودة إلى كتاب الغزالي "المستصفى من علم الأصول", يجد الدكتور حلاق إدخال المنطق لمؤازرة نظرية المعرفة في التنظير الفقهي وظهور الاجتهاد كمفهوم محوري.
فالمنطق هو وسيلة من وسائل فهم النص القرآني. و تبدو أهمية كتاب الغزالي في مناقشة مفهوم القياس كأصل من أصول الفقه لدى الشافعي، فيمكن للفقيه أن يكون مجتهداً بقياس الواقع عن النص. ومن أهم إنجازاته تقسيم الفقه إلى الضروريات الخمس والحاجيات والتحسينيات.
وقام مفكرون لاحقون بدراسة إمكانية أن يكون القياس ذي مرتبة أعلى من النص في قضية الفهم، لكن أمران حصلا منذ أيام الغزالي: الأول، أن نظرية المعرفة، والتي يمكن القول أنها استقلت عن المنطق الإغريقي، تم إعادة تشكيلها ولم تغير أصول الفقه، الثاني: أن العلاقة بين نظرية أصول الفقه والسياق العام لم تتغير. فهي إذاً ارتبطت بلحظات تاريخية سياسية واجتماعية مما شكل وأعاد تشكيل الاستجابة الجماعية لجماعة المؤمنين.
إن أهمية تحليل الدكتور حلاق، بالإضافة إلى علمه الغزير، تكمن في إظهاره لكيفية الإصلاح والتطور الفقهي. فنظرية أصول الفقه ليست كلاً واحد جامداً، بل إن تركيزه على بعض المصلحين في لحظات تاريخية معينة للإصلاح يظهر أهمية التطورات التاريخية وسياقاتها.
لذاـ يتحول الفقيه الأندلسي الشاطبي من القرن الرابع عشر إلى مرجع لمدرستين حديثين: مدرسة الإصلاحية الدينية ومدرسة الليبرالية الدينية. تشتمل الأولى على محمد عبده ومحمد رشيد رضا واللذين تبنيا مبادئ القرون الوسيطة للغزالي وتلامذته، فحاولا إعمال مفهوم المصلحة في الحقل العام. أما المدرسة الأخرى والتي تشتمل على مفكرين أمثال محمد سعيد العشماوي وفضل الرحمن ومحمد شحرور فهي ترفض الفكر الوسيط وتحاول إعادة قراءة أصول الفقه من واقع الحداثة.
وقد نجح الدكتور حلاق في معالجة قضية أصول الفقه السني مع العلم أن هذه القضية قضية معقدة، فهو عالم بدقائق الأمور في حقل أصول الفقه. إن دراسة أصول الفقه تتطلب العلم لا بالفقه فقط بل أيضاً بالمنطق وبالعقائد الإسلامية. فالكتاب يقدم للطلبة العلماء المختصين مقدمة شاملة للنظرية الفقهية لعلم الأصول. وتتلخص مقولته في أن أصول الفقه السني لم تتجمد في القرن الحادي عشر بل كانت خاضعة للتطور التاريخي