يأتي كتاب شوكت باموك، التاريخ المالي للدولة العثمانية، ليضفي على التاريخ بعداً هاماً يتعدى الأطر المالية المرسومة، من خلال ربطها بالأوضاع السياسية-العسكرية والاقتصادية والاجتماعية. فيقدم صورة واضحة لتأثير هذه الأوضاع على الشروط المالية، وتأثير المالية على الطموحات...
يأتي كتاب شوكت باموك، التاريخ المالي للدولة العثمانية، ليضفي على التاريخ بعداً هاماً يتعدى الأطر المالية المرسومة، من خلال ربطها بالأوضاع السياسية-العسكرية والاقتصادية والاجتماعية. فيقدم صورة واضحة لتأثير هذه الأوضاع على الشروط المالية، وتأثير المالية على الطموحات والحاجات العسكرية، والاقتصادية، والاجتماعية لدولة تصارع من أجل الحفاظ على وجودها واستمرارها. نستقرئ من خلال صفحات هذا الكتاب، أثر العوامل الخارجية في إعاقة نمو وتطور الدولة العثمانية، وما أدت إليه هذه العوامل من انهيار اقتصادي ترك بصماته على كافة لكفاحها المستمر أثره الفعال في تغيير مسار التطورات المالية والاقتصادية في حقبات معينة من تاريخها. فتاريخ الدولة العثمانية لم يكن، وكما صورته الكتابات التاريخية لغاية فترة قريبة، في مرحلة انحطاط مستمر بعد القرن السادس عشر. هذا المثال تم استبداله الآن بآخر يركز بشكل أعمق على قابلية الدولة والمجتمع العثماني على إعادة التنظيم والتكيف مع الظروف المتغيرة. وهكذا وكما يؤكد باموك، فإن وقائع التاريخ المالي تبين أن فرضية الانحطاط المستمر لا يمكن الدفاع عنها، وأن القرن الثامن عشر كان فترة معافاة للنظام المالي العثماني، ترافقت مع توسع اقتصادي واستقرار مالي.
ويمتاز الكتاب بعرضه المبسط للتاريخ المالي العالمي. فإلى جانب تعاطيه بالتاريخ العثماني، يعرض في ربطه لهذا التاريخ بالتطورات المالية العالمية، صورة واضحة للمسار المالي العالمي منذ أوائل العصور الوسطى وحتى بدايات القرن العشرين. ويذهب في فصوله الأولى إلى ابعد من ذلك، فيقدم لنا صورة واضحة عن دور النقد ونطور العلاقات المالية منذ انطلاقتها الأولى.
كما يتناول هذا الكتاب مسائل تتعلق بالثنائية المعدنية، وقاعدة الذهب "العرجاء، ومسائل الاقتراض الخارجي وتأثيراته على بنية الدولة وإمكانياتها، ودوره في تحطيم إمكانية الارتقاء والإنماء، إضافة إلى وقوع الدولة "فريسة" سهلة لأطماع الدولة الدائنة ومخططاتها. وغلى اليوم، ما زلنا نجد أن معظم الدول النامية، لم تستوعب دروس الماضي عن دور التعددية النقدية في احتياطاتها المالية حفاظاً على مقدراتها الاقتصادية. كما وتبقى تجربة الاستدانة الخارجية للعثمانيين، التي يعرضها علينا الكاتب، تجربة منورة يحتاجها الجميع بدون استثناء.
مع كتاب شوكت باموك، التاريخ المالي للدولة العثمانية، نحن أمام عمل استثنائي مميز، أبدع فيه الكاتب بعرض رؤية تاريخية شاملة لمالية الدولة العثمانية، مبسطة ومختصرة، إلا أنها جاءت شاملة واضحة ومعبرة. إن هذا الكتاب إضافة إلى بعض الكتب العربية والمترجمة القليلة النادرة، يعد خطوة جديدة في مسيرة الوعي التاريخي العثماني. إنه كتاب نحتاجه لفهم أفضل لتاريخنا وتراثنا، ولإدراك أهمية المقاربة التاريخية الشاملة لمشاكلنا السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية والثقافية.