لم تنفك المسيحية تشغل حيّزاً على حدّة من اهتمامات المسلمين منذ خرجوا من الحجاز، مهد الإسلام، إلى الشام، والعراق وبلاد فارس وغيرها. فلقد اتصل الفاتحون العرب بجاليات نصرانية أهلية عريقة في منطقة الشرقين الأدنى والأوسط وفي شمال أفريقيا واسبانيا مدة الحكم الإسلامي للأندلس...
لم تنفك المسيحية تشغل حيّزاً على حدّة من اهتمامات المسلمين منذ خرجوا من الحجاز، مهد الإسلام، إلى الشام، والعراق وبلاد فارس وغيرها. فلقد اتصل الفاتحون العرب بجاليات نصرانية أهلية عريقة في منطقة الشرقين الأدنى والأوسط وفي شمال أفريقيا واسبانيا مدة الحكم الإسلامي للأندلس تعين عليهم التعامل معها والتعايش، وكانت الحرب سجالاً مع الأمبراطورية البيزنطية الى أن انتهت بسقوط القسطنطينية، كما كانت الحروب مع القوى الأوروبية في إيطاليا وجنوب فرنسا ثم في فلسطين والشام زمن الحملات الصليبية مظهراً آخر من مظاهر العلاقات بين المسلمين والنصارى واستمر الصراع في العصور الحديثة بين الخلافة العثمانية والممالك النصرانية وامتد مع المد الإستعماري العربي منذ القرن الماضي وما صاحبه من "تبشير" وقح. وعلى صعيد آخر، كان التجذر التاريخي للإيمان المسيحي على امتداد ستة قرون سابقة للرسالة المحمدية، وادعاء المسيحية الإنتساب الى الوحي النهائي الأكمل، وصبغتها التبشيرية والكونية عوامل تهيئها للتصادم مع الإسلام في توقه الى استيعاب الأديان التي ظهرت قبله وتجاوزها وجمع شتات الموحدين على اختلاف أجناسهم وألوانهم تحت راية رسالة خاتم الأنبياء. لم يكن الجدل العقائدي إذن عملاً ذهنياً مجانياً البتة، بل كان سلاحاً نضالياً لبلوغ أغراض دينية ودنيوية معاً. كان يستجيب لضرورة الدفاع عن النفس ودعم تماسك البنية الإجتماعية القائمة، ويستجيب في الآن نفسه لمقتضيات الحرب النفسانية وما تتطلبه من زرع بذور الشك عند الطرف المقابل على أمل حمله على اختيار ما يعتقد أنه الحل الصحيح والإلتحاق بصف المدافعين عن الحق والخير. كما كان ذاك الجدل معبراً بصفته ضمنية عن قيمة الدين المطعون فيه وقدرته على الاغراء وما يمثله من تحدّ في نظر الداعين بأهميته. ضمن هذا الإطار تأتي هذه الدراسة التي هي في الأصل أطروحة تقدم بها الباحث لنيل درجة الدكتوراه. وان الميدان الذي كان موضع الإهتمام في هذا العمل انما هو منطقة حدودية بين دينين، ولأنها كذلك فهي معرضة بطبيعتها الى تقلبات ظرفية قد تجعل التأثير المتبادل يسيراً وعامل اثراء للطرفين في بعض الأحيان، وقد تقيم الحواجز بينها وتسعى الى فرض المرور في اتجاه واحد أحياناً أخرى وفي فترات التأزم خصوصاً، وأدت المجادلات الدينية تاريخياً الدور الثاني وساهمت في تصلب المواقف من الجانبين. كانت هذه المجادلات من الجانب الإسلامي تسمى في العادة "رداً على النصارى". وليس معنى ذلك أن هؤلاء قد هاجموا الإسلام بالضرورة فانبرى المسلمون للرد عليهم، بل هو فن "كلامي" قد يندرج ضمن باب التوحيد في المؤلفات الكلامية عموماً، وقد تخصص له كتب أو رسائل مفردة. والغرض منه في كلتا الحالتين دحض العقائد النصرانية، وكثيراً ما يكون موجهاً الى المسلمين في الدرجة الأولى لتثبيت عقيدتهم وتحذيرهم من ضلال النصارى وتضليلهم، وان احتوى على الدعوة الى اعتناق الإسلام والعزوف عن النصرانية. هذا وان مواضيع الجدل قد تحددت بصفة شبه نهائية (إذا تم استثناء الجدل الإسلامي – المسيحي الحديث أي منذ منتصف القرن الثالث عشر/ التاسع عشر) في أواخر القرن الرابع هجري/ العاشر ميلادي، واستقرت أغراضه الكبرى وسماته المميزة على نحو أغنى الباحث عن تتبع ما كتب في هذا المجال بعد هذا التاريخ. إذ الهدف الذي يرمي إليه هو تبين خصائص الفكر الإسلامي الكلاسيكي في صلته بالمسيحية، واستجلاء مدى تحقيق المجادلات للغرض الذي وضعت من أجله، والبحث عن النتائج التي من شأنها أن تترتب عليها. ذلك أن الصبغة النفعية المباشرة التي اختصت بها الردود فرضت على الباحث تقييمها على أساسها، دون اعتبار المجهود الفكري الذي بذله المسلمون حين سعوا الى معرفة كتب النصارى وعقائدهم عملاً مجرداً لإرضاء نهم عقلي أو حب في الإطلاع فحسب، وتأكد عليه الإنتباه الى أن الأغراض الجدلية والتمجيدية تنطوي على قيم وجودية لا سبيل الى انكارها كانت تضفي المعنى على الحياة والموت والمبدأ والمعاد، وبها كانت تكتسب أعمال الإنسان وعلاقاته بغيره من الناس مغزاها الأبعد. من هنا تعين على الباحث سبر مدى المطابقة بين ما نسبه أصحاب الردود الى النصارى، وما كان يعتقده هؤلاء ويقولونه بالفعل، قبل البحث عن حظوظ الحجج والأدلة التي استعملت لدحض المنظومة اللاهوتية المسيحية من بلوغ الغاية المرسومة لها، أي من اقناع الطرف المقابل بوجهة النظر الإسلامية. وهكذا اضطر الباحث الى الاستنجاد بغير الردود من كتب التفسير والحديث وعلم الكلام والتاريخ والأدب المعاصرة لها، لرؤية فيما إذا كانت المجادلات أمينة لمسار الفكر الإسلامي كله ومركزة على ناحية من نواحيه فحسب؛ أم أنها اختصت بالتعبير عن مواقف ونظريات وربما عقائد لا تتماشى وذلك المسار العام. ويأمل الباحث أن يتضح من خلال المنهج التحليلي الذي توخاه، ومن خلال تعليله لهذه الردود وإعادة تركيبها تركيباً آخر على غير الأساس الذي يثبت عليه أن يتضح أن غايته هي في المقام الأول معرفية، فقد حاول فهم مقاصد المفكرين الذين اعتنى بهم، وأن يتبين أثر النواة الدينية الصلبة التي يستندون إليها من جهة، وأثر السنة الثقافية التي ينتسبون اليها، ووضعيتهم التأويلية من جهة أخرى. ولعله بذلك يوفر للمعنيين بهذا الميدان والراغبين في توظيفه توظيفاً حديثاً مادة كافية للتمييز بين مختلف المقاربات التي يقتصيها الفكر الحديث ومقاربات المفكرين الذين عاشوا في القرون الهجرية الأولى، حتى يتمكنوا من الإحتفاظ بما لم يزل صالحاً في هذه الردود على النصارى وطرح ما سواه، فيكون الباحث بذلك قد أسهم في تخليص الفكر الإسلامي الحديث من التكرار والإجترار وإعانته على مواجهة تحديات الحداثة في بعدها الفكري والفلسفي.