يعودُ اهتمامي الرَّئيسُ، بِصِفَتي ناشِرًا، بِنشرِ كُتُبِ التَّصوُّفِ المؤلَّفَةِ والمترجَمَةِ عُمومًا والدِّراسات الأكبريَّةِ خُصوصًا إلى عامِ 1998، ولا سيَّما بعد صُدورِ ترجمةِ الكتابِ الممتازِ (الحضارةُ العربيَّةُ الإسلاميَّةُ في الأندلس The Legacy of Muslim Spain)،...
يعودُ اهتمامي الرَّئيسُ، بِصِفَتي ناشِرًا، بِنشرِ كُتُبِ التَّصوُّفِ المؤلَّفَةِ والمترجَمَةِ عُمومًا والدِّراسات الأكبريَّةِ خُصوصًا إلى عامِ 1998، ولا سيَّما بعد صُدورِ ترجمةِ الكتابِ الممتازِ (الحضارةُ العربيَّةُ الإسلاميَّةُ في الأندلس The Legacy of Muslim Spain)، بِجُزأَيْهِ، الذي نُشِرَ أَساسًا باللغةِ الإنكليزيَّةِ في دارِ بريل في عامِ 1992، والذي حرَّرَتْهُ الأُستاذةُ الدُّكتورة سلمى الخضرا الجيوسي ضمن مشروعِ (بروتا)، وهو جهدٌ جماعيٌّ كبيرٌ ونادرٌ في العربيَّةِ يستحقُّ الثَّناءَ. وحينَ شَرَعتُ في مُطالَعَتِهِ، ولا سيَّما جُزؤُهُ الثّاني، لفَتَ انتباهي بحثٌ شاركَتْ بهِ باحِثَةٌ فرنسيَّةٌ اسمُها كلود عدّاس، وهيَ أُستاذةٌ جامعيَّةٌ كانَتْ حينَذاكَ تُعِدُّ أُطروحَتَها التي هيَ سيرَةٌ فِكريَّةٌ مُهِمَّةٌ لابنِ عَرَبيّ ولِلمنزِلَةِ التي حَظِيَ بِها مَذهبُهُ في الإطارِ الدِّينيِّ والثَّقافيِّ لِعصرِهِ، فكانَ ذلكَ البَحثُ هوَ الباعِثَ لي على التَّفكيرِ الجادِّ في ترجمةِ الكتابِ، فما أَصدَقَ مَقولَةَ أَنَّ الكِتاباتِ النَّفيسَةَ تَقودُ إلى كِتاباتٍ نَفيسَةٍ مِثلِها. فكانَ أَن بَدَأْتُ رِحلَةَ بَحثٍ جادٍّ عن الكتابِ ومُؤلِّفتِهِ، وكانَت المعلوماتُ المُتَوافِرَةُ آنَذاكَ هيَ أنَّ الكتابَ قَد نُشِرَ باللغةِ الفرنسيَّةِ في عامِ 1989، فسارَعْتُ إلى طَلَبِ نُسخَةٍ ورقيَّةٍ منهُ من دارِ غاليمار الفرنسيَّةِ النّاشِرَةِ لهُ، وحينَ وصلَ إليَّ الكتابُ تَبَيَّنَ لي عَدَمُ مُطابَقَةِ تاريخِ نَشرِ الكتابِ مَعلوماتِ النَّشرِ التي كانَتْ مُتاحَةً لي سابِقًا. وقَد كُنتُ حينَ شَرَعْتُ في مُهِمَّتي تلكَ أظُنُّ أنَّ السَّبيلَ ستكونُ مُذَلَّلَةً أَمامي، ولم يَدُرْ في خَلَدي أنَّ هناك مَشاقَّ وصُعوباتٍ ستعترضُ طريقي، أَهَمُّها تلكَ المتعلِّقَةُ باختيارِ فَريقِ التَّرجَمَةِ والمُراجَعَةِ والتَّدقيقِ لِهذا الكتابِ المهمِّ بِحيثُ يتحقَّقُ نَقلُهُ إلى اللغةِ العربيَّةِ على أَكمَلِ وَجهٍ مُمكِنٍ وأَتَمِّهِ. لكِنْ قبلَ الإقدامِ على التَّرجَمَةِ، كان لا بُدَّ من أمرَينِ؛ أحدُهُما معرفةُ قيمةِ الكتابِ والإضافةِ الحقيقيَّةِ التي يُقدِّمُها في مجاله؛ والآخَرُ مَدى إمكانِ العُثورِ على من سيترجمُهُ التَّرجمةَ التي ترتقي إلى مُستوى الطُّموحِ. فأَمّا ما يتعلَّقُ بالأَمرِ الأَوَّلِ، فقَد أَخَذتُ أُنقِّبُ في كلِّ الأدبيّات العربيَّةِ المتاحَةِ والمتعلِّقةِ بهذا الحقلِ لَعَلِّي أَقِفُ على ذِكرٍ لهذا الكتابِ يُعَرِّفُني شيئًا من أَهمِّيَّتِهِ، فلم أَجِدْ في حُدودِ ما اطَّلَعتُ عليه في ذلك الوقتِ ما يستحقُّ الذِّكرَ، اللهُمَّ إلّا إشاراتٍ قليلةً وعابرةً عند بعضِ المهتمِّينَ بهذه الموضوعاتِ لا تشفي عليلًا ولا تروي غليلًا. فما كانَ منِّي إلّا أَن قرَّرْتُ سُلوكَ الطَّريقِ الأَمثَلِ وهو استشارَةُ أَهلِ الاختِصاصِ الدَّقيقِ عسى أَن أَجِدَ لديهِم العَونَ والنّجدَةَ. ففي نحوِ عامِ 2002، سعَيْتُ إلى الاتِّصال بِأَعلَمِ مَن في العالَمِ العربيِّ بِابنِ عربيّ وتُراثِهِ وهيَ الدُّكتورة سعاد الحكيم لِتَبادُلِ وِجهاتِ النَّظرِ في الأُمورِ ذاتِ الاهتماماتِ المشترَكَةِ عُمومًا ولِمَعرفَةِ رَأيِها في ترجمةِ كتابِ كلود عدّاس خُصوصًا. ولَكَم كانَ سُروري عظيمًا حينَ أخبرَتْني أنَّها تَعرفُ الكتابَ معرفةً جيِّدةً، وأَنَّهُ عظيمُ القيمَةِ وفَريدٌ في مجالِهِ، وأنَّ مؤلِّفتَهُ صديقتُها، وأَنَّها كانَتْ قَد أهدَتْ إليها نُسخةً منهُ فورَ صُدورِهِ. وحينَ لَمَسْتُ منها إشاراتٍ مشجِّعةً، انتَقَلْتُ إلى الأَمرِ الآخَرِ فعَرَضْتُ عليها ترجمةَ الكتابِ، فرحَّبَتْ بالفكرةِ وتحمَّسَتْ لها بادِيَ الرَّأيِ، لكنَّ الشَّواغِلَ شَغَلَتْها والصَّوارِفَ صَرَفَتْها عن ذلكَ لاحِقًا، فعُدْنا إلى نقطةِ الصِّفرِ. ثُمَّ أعَدتُّ عرضَ ترجمةِ الكتابِ بَعدَ ذلكَ على أحدِ الأساتذةِ التّونسيِّينَ المتخصِّصِينَ في الفلسفةِ الإسلاميَّةِ، ولكنَّ ما أَقلَقَني حينئذٍ أنَّ ذلكَ الأستاذَ لم يَكُن متخصِّصًا تخصُّصًا دقيقًا في التَّصوُّف، وغَلَبَ على ظَنِّي أَنَّهُ لا يَعرفُ كلَّ مَساراتِ فِكرِ ابن عربيّ وانعطافاتِهِ وتحوُّلاتِهِ، وكُلُّ ذلكَ يُشيرُ إلى احتِمالِ عَدَمِ استِطاعتِهِ تلبيةَ ما تَطمَحُ إليهِ الدّارُ من تَقديمِ ترجمةٍ تَليقُ بِأَهمِّيَّةِ الكتابِ المُنتَخَبِ لِلتَّرجَمةِ، ولا سيَّما أَنَّ مؤلِّفَتَهُ الفرنسيَّةَ قَد قرأَتْ مُعظَمَ تُراثِ الشَّيخِ الأكبرِ الذي أُتيحَ لها مِن مَطبوعٍ ومَخطوطٍ، ثمَّ عَمَدَتْ إلى إعادةِ بناءِ سيرةِ صاحِبِهِ في إطارِها الإنسانيِّ والفكريِّ من خلالِ نُصوصِهِ أَنفُسِها. ومِمّا يَدُلُّ بِوُضوحٍ على قيمةِ اختيارِنا ترجمةَ هذا الكتابِ أَنَّ هناك رِوائيًّا عربيًّا أفادَ منهُ بَعدَ ترجمتِهِ إلى العربيَّةِ فبَنى عليه روايةً كاملةً، لكِن مِن غَيرِ إشارَةٍ إلى الأَصلِ. وعِندَ هذهِ النُّقطَةِ تَحديدًا يُمكِنُ الانتِقالُ بِالحَديثِ إلى كتابِ (بَحرٌ بِلا ساحِل Un Océan Sans Rivage) الذي نُقَدِّمُ لَهُ. فكتابُ كلود عدّاس المذكورُ آنِفًا هو الذي قادَني إلى هذا الكتابِ الذي أَلَّفَهُ والِدُها الأُستاذ ميشيل شودكيفيتش، وما سَبَقَ قَولُهُ عن كتابِ البِنتِ ذاكَ يَكادُ يَصْدُقُ بِتَمامِهِ على كتابِ الوالِدِ هذا؛ فهوَ، على صِغَرِهِ، مُهمٌّ جدًّا في الدِّراسات الأكبريَّة لِتَقديمِهِ وِجهَةَ نَظَرٍ جَديدَةً فيها يُمكِنُ تلمُّسُها مُنذُ صَفَحاتِهِ الأُولى. وقَد عَمِلْتُ بِمُقتَضى المبدَإِ المعروف: ما لا يُدرَكُ كُلُّهُ لا يُترَكُ جُلُّهُ، فأَحَلْتُ ترجَمَةَ كِتابَي البِنتِ ووالِدِها على المتَرجِمِ المذكورِ، لكِنْ كان أمامي خياران: إمّا أن أُحَمِّلَ المترجمَ مسؤوليَّةَ التَّرجمةِ كامِلَةً، كما تفعلُ كثيرٌ مِن دُورِ النَّشرِ، فأُقَدِّمَ التَّرجمتَيْنِ إلى القارئِ العربيِّ على علّاتِهِما؛ وإمّا أَن أَسلُكَ دَربًا وَعرًا وشاقًّا لكِنَّهُ الدَّربُ الذي سيأخُذُ بِيَدِ القارئِ إلى بَرِّ الأَمانِ ويَقِفُهُ على أَقرَبِ نَصٍّ في العربيَّةِ مِن نَصِّ الكتابِ بِلُغَتِهِ الأَصليَّةِ. فقرَّرْتُ بِلا أَدنى تردُّدٍ سُلوكَ دَربِ العَذابِ مَهما كلَّفَني مِن وَقتٍ وجهدٍ ومالٍ، طَمَعًا في تقديمِ الأَفضَلِ والأَرقى والأَدَقِّ إلى القارئِ العربيِّ، فكانَ أَن أَخضَعْتُ التَّرجَمَتَيْنِ لِمُراجَعَةٍ شامِلَةٍ على أَصلَيْهِما اللذَيْنِ تُرجِما عَنهُما، ولَم أَكتَفِ بذلكَ بَل أَحَلْتُ الكِتابَيْنِ بَعدَ ذلكَ على مُدَقِّقِينَ مُجِيدِينَ لِلُّغَتَيْنِ المنقولِ مِنها والمنقولِ إليها، ثُمَّ بَعدَ ذلكَ كُلِّهِ عَهِدتُّ بِهِما، ولا سيَّما كتابُ شودكيفيتش، إلى مُتَخَصِّصٍ في العربيَّةِ وفي التُّراثِ الإسلاميِّ لِيَنظُرَ في ما عَسى أَن يَكونَ قَد نَدَّ مِن مُصطَلَحاتٍ أَو صِياغاتٍ غَيرِ مُلائمَةٍ لِرُوحِ التَّصَوُّفِ أَو ذائقَةِ العربيَّةِ، فأَعادَ التَّحريرَ كامِلًا، بِحَيثُ يُمكِنُ القولُ بِاطمئنانٍ إنَّ النَّتيجَةَ النِّهائيَّةَ لا يُمكِنُ نِسبَتُها خالِصَةً إلى المُتَرجِمِ الذي قَدَّمَ التَّرجمتَيْنِ بِصيغَتَيْهِما الأُولَيَيْنِ، بَل هيَ حَصيلَةٌ مُشتركةٌ لِكُلِّ تلكَ الجُهودِ الخَيِّرَةِ المخلِصَةِ. ولا شَكَّ في أَنَّ القارئَ الكريمَ باتَ مُهَيَّأً بَعدَ كُلِّ ما قيلَ لِتَقَبُّلِ فِكرَةِ أَنَّ خُروجَ الكتابِ الذي بينَ يَدَيْهِ بِصيغَتِهِ الحاليَّةِ قَد استَغرقَ مِنّا، كما استَغرَقَ سَلَفُهُ، خَمسَ سَنَواتٍ كامِلَةً مِن العَمَلِ المُضني في المُراجَعَةِ والتَّدقيقِ وإعادَةِ التَّحريرِ، فكأنَّ التَّرجمةَ عندَنا مَرَّتْ بمرحلتَينِ: مرحلةٍ أَوَّليَّةٍ مَثَّلَتْها التَّرجمةُ التي أنجزَها الأُستاذُ المترجمُ، ومرحلةٍ تاليةٍ لَها ارتَقَتْ بِمُستَوى التَّرجَمَةِ الأَوَّليَّةِ وجَعَلَتْها أَهلًا لأَن تَخرُجَ إلى القارئِ العربيِّ وأَن تَفخَرَ بِها دارُ المدار الإسلاميّ. واللهُ مِن وراءِ القَصدِ.