يضُمُّ كتابُ في مَدرَسَة الفينومينولوجيا مقالات حُرّرَت في مُدَد متباعدة ونُشرَت في مجلّات مختلفة، غيرَ أنَّهُ يتوفَّرُ مع ذلك على بناء متماسك يجعلُهُ من أهمّ المؤلَّفات الفلسفيَّة المُعينَة عَلى العلم بفكر إدموند هوسرل الذي هو مؤسّسُ منهج وفلسفة ظلّا حاضرَين بقُوَّة في...
يضُمُّ كتابُ في مَدرَسَة الفينومينولوجيا مقالات حُرّرَت في مُدَد متباعدة ونُشرَت في مجلّات مختلفة، غيرَ أنَّهُ يتوفَّرُ مع ذلك على بناء متماسك يجعلُهُ من أهمّ المؤلَّفات الفلسفيَّة المُعينَة عَلى العلم بفكر إدموند هوسرل الذي هو مؤسّسُ منهج وفلسفة ظلّا حاضرَين بقُوَّة في فكر القرن العشرينَ. إنَّهُ كتابٌ يجمعُ بين تاريخ الفلسفة والفلسفة في آن واحد؛ ذلك لأنَّ مؤلّفَهُ بول ريكور يرصُدُ فيه المراحلَ التي قطعَها فكرُ هوسرل بالعمل على تدقيق معظم المفاهيم وأهمّ الأفكار المؤسّسة لهذا الفكر مع طرح الأسئلة التي تُثيرُها فلسفيًّا. هذا الاهتمامُ الأخيرُ هو الذي يجعلُ العملَ يتجاوزُ التأريخَ نحو التأمُّل الفلسفيّ، إذ يستغلُّ ريكور طرحَ تلك الأسئلة ليبيّنَ ثغرات فكر هوسرل، ولكن مع العمل في الوقت نَفسه على إظهار تصدّي الفيلسوف لهذه الثغرات عبرَ استئناف البحث والتأليف في موضوعات أُخرى مختلفة عن موضوعات الانطلاقة. هكذا، ينتقلُ ريكور في كتاب في مَدرَسَة الفينومينولوجيا من كتاب الأفكار إلى كتاب أبحاث مَنطقيَّة إلى كتاب تَأَمُّلات ديكارتيَّة إلى كتاب الأزمَة بسبب اهتمامه بإيجاد الرابط المنطقيّ الجامع بينَ مراحل تطوُّر فكر هوسرل. وإنَّ ما يميّزُ المؤلّفَ في تجاوزه للتأريخ نحو التفلسف في إطار هذا الكتاب هو كونُهُ فيلسوفًا أوَّلًا، وانتماؤُهُ إلى التيّار الفلسفيّ نفسه الذي يؤرّخُ له ثانيًا. فمعلومٌ أنَّ بول ريكور كانَ قَد عكفَ منذُ بداية مساره الفلسفيّ على كتابات هوسرل وعمدَ إلى ترجمة أهمّ مؤلَّف اشتهرَ به هذا الأخيرُ في تأسيس الفينومينولوجيا وهو كتابُ الأفكار. زدْ على ذلكَ أنَّ المؤلّفَ تبنّى مختلفَ المنطلَقات الفلسفيَّة التي قامَت من أجلها الفينومينولوجيا في مرحلة النشأة، ولا سيَّما التصدّي للنزعة الوضعيَّة التي اكتسحَت مُجمَلَ حُقول الدراسات الإنسانيَّة وفي مُقدّمتها مجال السيكولوجيا. يتبنّى ريكور إذن الفكرةَ نَفسَها التي انطلقَ منها هوسرل ودافعَ عنها خلالَ مساره الفلسفيّ، وهي إعادةُ الاعتبار إلى الكائن الإنسانيّ في مجال الفكر ليظلَّ دائمًا ذاتًا تُمارسُ الفكرَ وتؤسّسُ المعنى، وإن أصبحَتْ موضوعًا للفكر في مجال مّا من مجالات المعرفة. ولَم يَكُن انتقادُ ريكور لهوسرل ولا تقديمُهُ للتيّارات المعارضة لفلسفته، ولا سيَّما تلك التي تُضفي عليها طابعَ المثاليَّة، إلّا لرَصد مكامن القوَّة في الفينومينولوجيا الهوسرليَّة بُغيَةَ الدفاع عن منطلق هذه الفلسفة الذي هو الإقرارُ بعدم اختزاليَّة الكائن الإنسانيّ في مجرَّد موضوع للبحث والمعرفة. إذ يظلُّ الإنسانُ في نهاية المطاف الكائنَ الممارسَ للمعرفة والبانيَ لموضوعها، أي يظلُّ الكائنَ المتميّزَ بالحرّيَّة، البُعد الإنسانيّ الذي افتتحَ به ريكور مسارَهُ الفلسفيَّ في أُطروحة الدكتوراه عندما اختارَ الاشتغالَ على مسألة الإرادة. وكذلكَ، تَجدُرُ الإشارةُ إلى أنَّ تطويرَ ريكور في هذا الكتاب لمكامن قوَّة الفينومينولوجيا ولحدودها في آن واحد يُعَدُّ توطئةً للموضوع الثاني الذي ارتبطَ به اسمُهُ في الفلسفة، أي مسألة الهرمينوطيقا. وأظنُّ أنَّ جمعَ الكاتب بينَ رصد الأفكار المؤسّسة لفلسفة هوسرل ودفاعه عنها بتأييدها وتعميقها فيما يتعلَّقُ بمسألة المعنى هو الذي يُسَوّغُ حضورَ كلمة ’مدرسة‘ إلى جانب كلمة ’الفينومينولوجيا‘ في عنوان هذا الكتاب. إنَّها مدرسةٌ لمَن يَوَدُّ العلمَ بالفينومينولوجيا بوَصفها منهجًا وفلسفةً، وكذلك لصاحب الكتاب نفسه الذي أخذَ منها المكوّنات النظريَّةَ اللازمةَ لتطوير الشّقّ الثاني من فكره المتمثّل في مَدّ موضوع التأويل من الذات والوجود إلى مجال الخطاب والنصّ، أي من مجال فلسفيّ ضيّق إلى مجال آخرَ أعَمَّ هو الهرمينوطيقا.