-
/ عربي / USD
"لا أملك إلَّا المسافات التي تُبعِدُني". وفي مقدِّمةِ الكتاب، يتضح معنى العنوان كعتبة أولى، حيثُ يقول الكاتب: يُبدي البعض انزعاجاً كبيراً من الكتابات التي تستعين بالاقتباسات، و"تتَّكئ" على بعض المفكِّرين الذين غدت أسماؤهم حجَّة، يُعتمَدُ عليها، وسنداً "يُستَنَدُ" إليه، ودعامة تَستمدُّ منها الأحكامُ صِدقَها، وتنهل منها الخطاباتُ أهمِّيَّتَها، وتكتسب منها الكتابة قوَّتها. وهم ينصحون كُتَّابنا أن يُقلِعُوا عن استنساخ غيرهم، ويُثبتوا كفاءتهم وقدرتهم على الإبداع بأن ينطلقوا من "درجة صفر الكتابة".
رغم براءة النصيحة وحسن نِيِّتها وغَيْرتها على فكر"نا" وإبداعـ"نا"، فهي تنطوي على مفهوم معيَّن عن الكتابة، ونظرة بعينها إلى الفكر، بل ربَّما تفترض فَهْماً معيَّناً للهوية، وموقفاً بعينه من التراث الفكري. المُسلَّمة الأولى التي تفترضها هذه النظرة هي أن الاقتباس أمر يتمُّ، دوماً، بوَعْي وسَبْق إصرار.
والحال أن الكاتب غالباً ما يقتبس حتَّى إن ظنَّ أنه صاحب الفكرة وأنه السَّبَّاق إليها. إن الكتابة توليد للفكر واللغة، ومَنْ يقول اللغة يقتحمُ اللَّاوعي، ويدخل غياهب التاريخ. لذا نجد من المفكِّرين مَنْ ذهب إلى القول بأن اللغة هي التي تُفكِّر وتكتب، وأن يد الكاتب هي، دوماً، "يد ثانية".
هذا الاقتحام لغياهب التاريخ يطرح مسألة التراث الفكري وكيفية تملُّكه وتجاوُزه. وهي، كما نعلم، مسألة معقَّدة، يتوقَّف النظر فيها على فَهْمنا للفكر وللقطائع والانفصالات.
وهذا الفَهْم يتدرَّج من مجرَّد الموقف الوضعي الذي يَعتبر القطيعة انفصالاً مطلقاً، يَجُبُّ فيه الحاضرُ ما قبله، إلى الموقف الجينيالوجي الذي ينظر إلى التراث الفكري على أنه ينطوي على ما يحجبه ويغلِّفه، فيَعتبر تجاوُزه تراجعاً لا ينفكُّ إلى الوراء، كما يَعتبر التَّملُّك الفكري انفصالاً دَؤُوْباً، تتعيَّن فيه الهوية بالمسافات التي تبعدها، أكثر ممَّا تتحدَّد بانصهارها وتوحُّدها مع ما تزعم تملُّكه.
قيّم هذا الكتاب
هل استخدمت هذا المنتج من قبل؟
لا توجد أي مراجعات بعد