-
/ عربي / USD
كتبت هذه القصص وأنا بعيد عن العراق، في أعوام 55 و 56 و 1957، حين كان العراق يعربد فيه الجلاء نوري، وبغداد - عاصمتنا وعاصمة أجدادنا - مباحة للمقامرين وذوي النوايا السود، جنرالات حلف بغداد المقبور، والشعب العراقي كان يعض بالنواجذ حقداً على الخونة، والراكبين على رقاب الخونة، وتذمراً أو تأهباً لمعركة الشرف والحياة والحرية.
وإذ ذاك كنا نحن الذين كتب علينا أن نعيش خارج العراق، نترقب أخبار الوطن بلهفة، ونتحدث عنها بشوق في جلساتنا، وخلواتنا مع أنفسنا، ونجعل كل كلمة فيها تنبض بالدم، وأخبار الإستبداد كنا نضطرم لها غيظاً، ونقول إنها تشبث من يصارع الموت، وأخبار المعارك والإنتصارات كنا نرفض لها طرباً، ونغني لشرفها الأغاني والأناشيد، ونعتبرها خيوط الفجر الأولى.
في تلك الفترة كتبت هذه القصص، وبعضها كتبته في ظرف لا إستقرار فيه، فقد فرغت من كتابة إحداها على مسطبة في أحد شوارع دمشق، في يوم من أيام كانون الثاني القارس البرد، وأنا شبه متشرّد!...
وعملت في قصة "دجاجة وآدميون أربعة" وأنا عائد إلى رومانيا بعد أن توسّط خليل كنه لمنعي من دخول سوريا، ثم أكملت القصة في "قصر الطلائع" في بوخارست.
لقد انتهيت من القصة وأنا في وضع مريح جداً يختلف عن كل ما ألفت من حياة: فقد كانت الغرفة التي أكتب فيها مريحة جداً؛ وثيرة الفراش فسيحة مترعة بالضوء، والمدفئة على مقربة مني، ومشرفة البيت الطيبة القلب، القادمة من جبال القربات تنظر إلي لأقول شيئاً تلبّيه.
ومن النافذة العريضة حيث كانت الشمس تلقي شعرها الذهبي على بساط الغرفة كنت أستطيع أن أرى طائفة من الأطفال تمرح في الساحة الخضراء، وهناك طائفة أخرى على مبعدة منهم كانت ترقص في حلقة، وتدفئ نفسها بهذه الرياضة الجميلة، وتغني في صوت شحارير لم يكتمل ريشها... كان كل شيء من حولي يفيض بالسعادة والمرح الطفولي والإطمئنان إلى الغد...
ولكن هذا الجو لم ينسني وطني وأطفال وطني، بل زادني شعوراً بهم، وتفكيراً بحياتهم، والقصة التي كنت أكتبها هي قصة طفلين مشرَّدَين أحدُهما ذو صدر مهشّم، فتمنِّيت أن يكون أطفال وطني سعداء، كهؤلاء الأطفال الرومانيين، لهم قَصرٌ خاص بهم، ومربّيات يشرفن عليهم، وحدائق خضر يمرحون بها، وكرات ملونة يتراشقون بها بدلاً من أن يتراشقوا بالطين، وأغانٍ حلوة يترنَّمون بها بدلاً من أن تفيض ألسنتم بالسباب، وفي تلك اللحظة امتلأت نفسي حرقة، وشرعت تقطع المسافات، وتطوي الأبعاد لتصل إلى أرض وطني الحبيب... حيث الأطفال يُشرِّدون، ويهرمون قبل أن يَبُلغوا الشباب.
قيّم هذا الكتاب
هل استخدمت هذا المنتج من قبل؟
لا توجد أي مراجعات بعد