يحق لنا أن تتصور على سبيل الإفتراض أن عقلاً من ذلك النوع الذي ينبغي أن يبلغ نمط "العقول الحرّة" داخله الإكتمال نضجاً وحلاوة في يوماً ما، قد أنجز بالنهاية حدثه الحاسم في فعل إنعتاق عظيم، وأنه لم يكن فيما سبق سوى عقل مقيد كان يبدو قابعاً في زاويته مشدوداً إلى ركنه إلى الأبد.ما...
يحق لنا أن تتصور على سبيل الإفتراض أن عقلاً من ذلك النوع الذي ينبغي أن يبلغ نمط "العقول الحرّة" داخله الإكتمال نضجاً وحلاوة في يوماً ما، قد أنجز بالنهاية حدثه الحاسم في فعل إنعتاق عظيم، وأنه لم يكن فيما سبق سوى عقل مقيد كان يبدو قابعاً في زاويته مشدوداً إلى ركنه إلى الأبد.
ما الذي يقيّد بأكثر قوة؟ أي القيود هو ذلك الذي يستعصي على الكسر كليّاً، أو يكاد؟ عند أناس من النوع الراقي والممتاز ستكون الواجبات هي ذلك القيد: ذلك الضرب من الإجلال مما لا يوجد سوى لدى الشباب، ذلك الوجل: ذلك الوجل واللطف تجاه كل جليل ورصيد قديم من الإعتبار، وذلك الإمتنان للأرض التي ترعرعوا فوقها، ولليد التي أمسكت بأيديهم وللتحرم الذي تعلموا فيه العبادة، أنها أرقى لحظات حياتهم هي التي تقيدهم أمتن تقييد وتلزمهم أطول إلزام.
يحدث الإنعتاق العظيم لهذا النوع من المقيدين فجأة، في ما يشبه رجّة أرضية: وإذا النفس الفتية تجد نفسها دفعة واحدة مهتزة منفصلة مجتثة وهي لا تدرك ما الذي يحدث، إحتقان وقوة دفع تطغى عليها وتغدو متحكمة بها مثل أمر قاطع؛ إرادة، أمنية تستيقظ وتريد المضي قدماً بإتجاه مكان ما بأي ثمن، فضول جامح، وخطير يتّقد ويلتهب داخل جمع حواسها إشتياقاً إلى عالم مجهول "الموت ولا الحياة هنا"، هكذا يصدح الصوت الأمر للغواية، وكان ذلك الــ"هنا"، "بيت الإقامة" ذاك، هو كل ما ظلت تحبه إلى حد تلك اللحظة إذعر مفاجئ، ونفور من ذلك الذي كانت تحبه، التماعة إحتقار صاعق تجاه كل ما كان يدعى واجباً لديها، رغبة متمردة مستبدة بركانية في الترحال، ونزوع إلى الغريب، إلى الإغتراب والإصابة ببرد الإحباط والتجمد، وحقد على الحب، وربما نظرة ويدّ مونستان تمتدان إلى الخلف، هناك حيث كانت إلى حد تلك اللحظة تتعبد وتحب، وربما سيل حارق من الخجل كانت تفعله مع غبطة في الوقت نفسه لكونها قامت بذلك... معانٍ فلسفية مفرقة في العمق يصور نيتشه من خلالها النفس الإنسانية الطامحة إلى الأفضل... سجن وشعور بالأسر ولحظة الإنعتاق يصورها نيتشه كرعشة نشوة داخلية تنبئ عن غبطة الإنتصار... إنتصار مبهم... لكنه إنتصار أول... ذلك هو ما يرافق تاريخ الإنعتاق العظيم من فظاعة ووجع... إنه الإنفجار الاول للطاقة والرغبة في تقرير المصير وإعادة تقييم الذات، وهذه الإرادة التي تريد الإرادة الحرة.
إلا أن الطريق وصولاً إلى الإرادة الحرة طويلة بعيداً عن الإنعزال المرضي، ومن صحراء سنوات التجريب إلى ذلك الأمان والعافية حتى بلوغ حرية العقل المكتملة النضج، التي هي في الآن نفسه سيطرة على النفس وأدب للقلب، وهي التي تسمح بفتح الطريق نحو ضروب من التفكير متعددة ومتناقضة، إلى أن تحلّ في تلك الحالة من الرحابة الداخلية وترف فائض الثراء... فهل إنتابتك هذه المشاعر في يوم ما...
وإذا كان الأمر كذلك فأنت بنظر نيتشه وفلسفته ستكون في إنتظار حصول فيض الطاقات الحيوية الضامنة للتعافي والتدارك وإستعادة القوى، ذلك الفيّض الذي وكما يقول هو مؤشر العافية، وهو الذي يمنح المفكر الحرّ الإمتياز الخطير في أن يحيا على نحو تجريبي والذي يقتضي فواصل زمنية تجربه كي يقدم المفكر الحر لنفسه جواباً بشأن لغز التحرر، وينتهي معمّماً حالته الخاصة بالجسم في أمر تجربته.
وكما حصل لي، بقول لنفسه، ينبغي أن يحصل لكل أحد يجعل في داخله مهمة تريد أن تتجسد و"تظهر إلى الوجود"... وهكذا وجد نيتشه أن مهمته يجب أن تتجسد من خلال كتاب إبتدعه لنفسه، وهو كتاب موجه "للمفكرين الأحرار" وإليهم يهدي هذا الكتاب الجريء الذي يحمل عنوان "إنساني مفرط في الإنسانية" أما لماذا اختاره عنواناً، فلأنه من يعيش هذه التجربة عليه أن يعيش روحاً وجسداً من حالات الضنك والسعادة كمغامر وجواب آفاق داخل هذا العالم الباطني الذي يدعى "إنساناً".
وأخيراً يمكن القول بأن نيتشه يحاول من خلال كتابه هذا وفلسفته تلك دفع الإنسان إلى إكتشاف ذاته بعيداً عن المؤثرات فيغدو بتجربته تلك مفكراً حراً بإستطاعته تفجير طاقاته التي تختفي وراء مظاهر متعددة لا يعيها.