تتزامن بدايات فلسفة الفن عند هيغل مع بدايات تكون "فلسفة الروح" في طور بينّا، ومع أن الباحث يجد أن على رأس المصنفات النقدية لبينّاً بعض إشارات إلى المنزلة الروحية الذي يحتلها الفن، فإن الأرض الفلسفية التي ستنشأ عليها فلسفة الفن لن تأخذ في التشكل إلا مع بدايات تكون منظومة...
تتزامن بدايات فلسفة الفن عند هيغل مع بدايات تكون "فلسفة الروح" في طور بينّا، ومع أن الباحث يجد أن على رأس المصنفات النقدية لبينّاً بعض إشارات إلى المنزلة الروحية الذي يحتلها الفن، فإن الأرض الفلسفية التي ستنشأ عليها فلسفة الفن لن تأخذ في التشكل إلا مع بدايات تكون منظومة "الروح الحرّ بإطلاق" في تخطيطات منظومة "بينّا" في تخطيطات منظومة بينّا التي يشار إليها بفلسفة الحقيف (الريا لفيلوزوقي). وفي إستهلال أول نص فلسفي ينشره هيغل وهو كتاب الفرق الذي يشخص فيه راهن الثقافة العامة والمبدأ الذي تقوم عليه الأشكال الحادثة للتفلسف، بجيل "الفن الحيّ" في سياق هذا التشخيص النقدي، إلى ما صار يعوز ثقافة العصر، إلى مفهوم التناسق الشامل و"الوصل العميق" الذي يشدّ روابط الحياة نفسها. ذلك أنه على العكس من الفن الذي يتنزل على صعيد "الجملة الشاملة - التوتاليتيت" الحيّة والمترابطة، يرى هيغل أن ثقافة العصر التي طغت عليها سنّة الحصاة أو الذهن، قد باتت تكابد أشدّ أشكال التمزق والإنفصام، حتى أن "نسق، روابط الحياة صار غريباً عما يقتضيه الفن" "كمالاً إستطيقيا" يقوم على "حرية الذات وضرورة الموضوع" وإتصال "الظاهر والباطن" وإئتلاف "الماهية والظاهرة". ويبين نفسه من هذا التشخيص النقدي لراهن العصر والفلسفة أن الفن يقوم في نظر هيغل مقام المثال التاريخي الذي على منواله يستكشف فسادات الراهن، بل يحدد أيضاً ما يفترض أن تُندب له الفلسفة، أي مهمة التدبير النظري للإنفصام من حيث نسخ سنة الحصاة ورفعها ضمن التشريع التأملي للعقل. وعليه، فإن الفن ههنا لم يعد يندرج (كما هي الحال في طور فرانكفورت) ضمن تلك الدعوى الإتيقية - السياسية التي ترمي إلى إصلاح الدين والجمع السياسي، بل صار الفن في حدّ ذاته معياراً أو "قسطاساً" ميتافيزيقيا يعتمده هيغل في إخراج أول معالجة لمشكل الفلسفة بالذات؛ بهذا المعنى تحديداً يستخدم مقولة "الأثر الفني الكلي" تشديداً على الموضوعية التاريخية للفن (وخروجاً عن التصور الرومنطيقي - الديني المجرد الذي يرى أنه من الممكن أن يوجد "فن من دون أثر فني" أي لا يقوم الأعلى العبقرية والإلهام الديني). ومهما يكن من أمر، فإن مقالة مثالية المضمون الإستطيقي للفن كما تتبدى من تلك الدروس التي يعرضها هذا الكتاب لم تنشأ دفعة بقدر ما هي نتاج مراحل نشوء فلسفة هيغل في الفن وتطورها منذ الكتابات الأولى، أي تحديداً كتابات طور فرانكفورت في (1797- 1798)، ثم كتابات طور بينّا الذي تحت الإشارة إلى لمحات فيه (من 1801 إلى 1807) وإنتهاءً إلى نصوص طور الصياغة الموسوعية بيرلين مروراً بدروس في فلسفة الفن (بين 1820- 1821 و 1828- 1829). وقد صار بيّنا لمترجم هذه الدروس الهيغيلية فن الإستطيقيا وبعد إشتغال روح روح غير يسير من الزمن، على تاريخ نشوء الفكر الهيغلي وتطوره في كتاب هيغل الأول في سياقه، أن هيغل حين شرع في مزاولة الفلسفة إنما قد فتح، إذا جاز القول، "ورشات" تفكير لم يزل يعمل فيها على أمهات المقالات الفلسفية التي تكون أركان منظومته ولم يزل يستأنف مراجعتها وتعديلها إلى أن استقر أمره على إخراجها إخراجاً نظامياً محكماً. كما يستطيع القارئ تبين ذلك في نص الضمنية التي تتعلق بهيغل، ودروس هيغل في الإستطيقا، وبخاصة هذا الكتاب الأول الذي يقوم مقام المقدمة النظرية، إنما تفترض بالضرورة هي أيضاً ذلك التاريخ التشعب والمركب في تكون "فلسفة الفن" ومراحل تطورها عند هيغل.