-
/ عربي / USD
كانت حياة سبينوزا، على قصرها، خصبة بما أنتجه هذا الفيلسوف من الكتب والرسائل التي دارت على الكثير من المسائل، ولم ينشر سبينوزا في حياته غير كتابيين اثنين، لم يصدر بإسمه سوى واحد منهما فقط، هو "مبادئ فلسفة رينيه ديكارت"، وملحقه الصادر بعنوان "خواطر ميتافيزيقية". وأما الكتاب الثاني فهو "رسالة في اللاهوت والسياسة"، وبعد وفاة سبينوزا نشر أصدقاؤه مجموعة، مع ذكر اسم المؤلف بحروفه الأولى فقط، وتحتوي هذه المؤلفات، حسب الترتيب على "علم الأخلاق"، "الرسالة السياسية"، "رسالة في إصلاح العقل"، "المراسلات"، "وموجز في النحو العبري".
وبالنسبة لكتابة "علم الأخلاق" فقد اصطنع سبينوزا في كتابه هذا منهج الرياضيين في الهندسة، وأسرف في إصطناع هذا المنهج، حتى لقد جاء كتابه أشبه بكتب علماء الهندسة منه بكتب الفلاسفة، لما تضمنه من تعريفات وبديهيات ومصادرات وقضايا وبراهين، وحواشي وما إلى ذلك مما يصطنعه علماء الهندسة في كتبهم ورسائلهم. وبقي كتاب "علم الأخلاق" في درج من أدراج سبينوزا ولم ينشر إلا بعد موته، والكتاب إلى هذا يحتل مكان الصدارة من بين مؤلفات سبينوزا، رغم أنه توقف عن إعداده مدة من الزمن من أجل تاليف الرسالة في اللاهوت والسياسة، وهي رسالة ظرفية تعالج أموراً ظرفية، على خلاف "الأخلاق" التي تعبر عن إنعكاس عقل الله الأزلي في الجزء الأزلي من عقل سبينوزا الغاني.
وإن الإجماع حاصل على تقريباً على أن كتاب علم الأخلاق هو تحقيق للمشروع الذي خططه سبينوزا في "الرسالة في إصلاح العقل"، وفي الجزء الأول من هذه الرسالة، يسعى سبينوزا، عن طريق منهج التأمل، إلى الإرتقاء إلى فكرة الله التي هي مبدأ العلم الصحيح وقاعدته، وكان عليه في الباب الثاني، بعد أن أصبح مشرفاً على نشوء الأشياء وصدورها، أن يشرع، إنطلاقاً من فكرة الله وصفاته، في إستنباط معلومات صحيحة جديدة، أي في إنشاء العلم الإستنتاجي؛ لكن، كما أشار إلى ذلك أندريه داربون، لم يعد تأليف هذا الباب الثاني أمراً ضرورياً وما دام سبينوزا قد تقدم شوطاً كبيراً في إنجاز علم الأخلاق - ولا سيما وأن كل ما كان سيتضمنه من إستنتاجات إنما هي الإستنتاجات ذاتها المؤلفة لجوهر علم الأخلاق. ولعل من يفتح كتاب سبينوزا في علم الأخلاق سيتغرب لأول وهلة من كون الفيلسوف قد بدأ حديثه عن الله وعن النفس وإنفعالاتها قبل الحديث في الأخلاق، وقد يذهب الظن به إلى أن الأبواب الثلاثة الأولى من هذا الكتاب هي أكثر قيمة، في نظر سبينوزا، من البابين الأخبرين اللذين لعلهما أضافيان، إلا أن مثل هذا الإعتقاد يشير إلى سوء فهم لطموح سبينوزا الحقيقي، الذي يظهر بوضوح منذ الفقرات الأولى من "الرسالة في إصلاح"، ألا وهو إرشاد الإنسان إلى سبل الخلاص في الدنيا قبل الآخرة، بإقناعه بأن الغبطة ليست جزاء للفضيلة، وإنما هي الفضيلة نفسها.
وإلى هذا، فإن أخلاق سبينوزا ليست عنصراً أو جزءاً من فلسفة؛ بل فلسفته كلها أخلاقية في مبادئها وأسسها وفي أبعادها ومساعيها، ومع أن الأبواب الأولى من علم الأخلاق تعرض المبادئ الميتافيزيقية التي تقوم عليها المبادئ الأخلاقية، فضلاً عن كون المطلوب من هذه الأبواب هو بيان ما ينبغي معرفته لكي يصبح المشروع الأخلاقي ممكناً، إلا أن ما يحدو البعد النظري لهذه الأبواب هو السعي إلى بلوغ الخبر الأعظم والفوز بالسعادة الحقيقية.
إن المشكل الذي يتناوله سبينوزا بالدرجة الأولى لا يتعلق ببداهة المعرفة، مثلما هو الشأن بالنسبة إلى ديكارت مثلاً، وإنما يتعلق بضمة النفس وسعادتها القصوى "الرسالة في إصلاح العقل الفقرتان 1، 2". أما السؤال الذي كان سبينوزا يطرحه على نفسه فهو ليس: "ماذا يجب أن أفعل؟" وإنما: "ماذا يجب أن أفعل كي أفوز بالسعادة؟" وليس من مجانبة للصواب إذا تم تعريف الأخلاق السبينوزية بأنها أخلاق السعادة، وفلسفته بانها فلسفة الفرح، بإعتبار أن الطرح الأخلاقي لقضية الفرح والسعادة في كتاب "علم الأخلاق" لا يخرج عن نطاق التساؤل الآتي: "كيف أضمن لنفسي أكبر عدد من إنفعالات الفرح وأقل عدد من إنفعالات الحزب؟".
قيّم هذا الكتاب
هل استخدمت هذا المنتج من قبل؟
لا توجد أي مراجعات بعد