إن العلم حياة القلوب من الجهل، وضياء الأبصار من الظلمة، وقوة الأبدان من الضعف، يبلغ بالعبد منازل الأخيار، ومجالس الأبرار، والدرجات العلى في الأخرة والأولى، الذكر فيه يعدل بالصيام، ومدارسته بالقيام، به يطاع الرب ويعبد، وبه توصل الأرحام، ويعرف الحلال والحرام، العلم إمام العمل، والعمل تابعه، يُلهَمه السعداء، ويحرمه الأشقياء، فطوبى لمن لم يحرمه الله منه حظه. وفي أمثال هذا من الأخبار كثرة لا تطول بذكرها؛ ثم إن أشرف العلوم وأسناها، وأبهرها وأبهاها، وأجلها وأفضلها، وأنفعها وأكملها، علم القرآن الكريم، فإنه جميع العلوم الأصل، منه تتفرع أفانينها، والعماد عليه تبنى قوانينها.

وقد خاض العلماء قديماً وحديثاً في علم تفسير القرآن الكريم، واجتهدوا في إبراز مكنونه، وإظهار مصونه، وألفوا فيه كتباً جمة، غاصوا في كثير منها إلى أعماق لججه، وشققوا الشعر في إيضاح حججه، وحققوا في تفتيح أبوابه، وتغلغلوا في شعابه، إلا أن أصحابنا، رضي الله عنهم، لم يدونوا في ذلك غير مختصرات، نقلوا فيها ما وصل إليهم في ذلك من الأخبار، ولم يعنوا ببسط المعاني وكشف الأسرار، إلا ما جمعه الشيخ السعيد أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي، من كتاب التبيان، فإنه الكتاب الذي يقتبس فيه ضياء الحق، ويلوح عليه رواء الصدق، وقد تضمن من المعاني الأسرار البديعة، واحتضن من الألفاظ اللغة الوسيعة، ولم يقنع بتدوينها دون تبيينها، ولا بتنميقها دون تحقيقها. وقد كنت أيضاً شديد التشوف إلى جمع كتاب في التفسير، ينتظم أسرار النحو اللطيفة، ولمع اللغة الشريفة، ويفي موارد القراءات من متوجهاتها، مع بيان حججها الواردة من جميع جهاتها، ويجمع جوامع البيان في المعاني المستنبطة من معادنها، المستخرجة من كوامنها، إلى غير ذلك من علومه الجمة.

لذلك شمرت عن ساق الجد، وبذلت غاية الجهد والكد، وأسهرت الناظر، وأتعبت الخاطر، وأطلت التفكير، وأحضرت التفاسير، واستمددت من الله سبحانه التوفيق والتيسير، وابتدأت بتأليف كتاب هو في غاية التلخيص والتهذيب، وحسن النظم والترتيب، يجمع أنواع هذا العلم وفنونه، ويحوي فصوصه وعيونه، من علم قراءته، وإعرابه، ولغاته وغوامضه ومشكلاته، ومعانيه وجهاته، ونزوله وأخباره، وقصصه وآثاره، وحدوده وأحكامه، وحلاله وحرامه، والكلام على مطاعن المبطلين فيه، وذكر ما ينفرد به أصحابنا، رضي الله عنهم، من الإستدلات بمواضع كثيرة منه على صحة ما يعتقدونه من الأصول والفروع، والمعقول والمسموع، على وجه الإعتدال والإختصار، فوق الإيجاز ودون الإكثار، فإن الخواطر في هذا الزمان لا تحتمل أعباء العلوم الكثيرة، وتضعف عن الإجراء في الحلبات الخطيرة، إذ لم يبق من العلماء إلا أسماء، ومن العلوم إلا الذَّمَاء.

وقدمت في مطلع كل سورة ذكر مكيها ومدنيها، ثم ذكر الإختلاف في عدد آياتها، ثم ذكر فضل تلاوتها، ثم أقدم في كل آية الإختلاف في القراءات، ثم ذكر العلل والإحتجاجات، ثم ذكر العربية واللغات، ثم ذكر الإعراب والمشكلات، ثم ذكر الأسباب والنزولات، ثم ذكر المعاني والأحكام والتأويلات، والقصص والجهات، ثم ذكر إنتظام الآيات؛ على أني قد جمعت في عربيته كل غرة لائحة، وفي إعرابه كل حجة واضحة، وفي معانيه كل قول متين، وفي مشكلاته كل برهان مبين، فهو بحمد الله للأديب عمدة، وللنحوي عدة، وللمقرئ بصيرة، وللناسك ذخيرة، وللمتكلم حجة، وللمحدِّث محجة، وللفقيه دلالة، وللواعظ آلة.

وسميته كتاب "مجمع البيان في تفسير القرآن الكريم" حيث أردت أن يكون كتاباً كثير الدرر، غزير الغرر، متواصف السمات، متناصف الصفات، سياراً في الأبحار والأغوار، طياراً في الآفاق والأقطار، مهذب الترتيب، مُذهَّب التهذيب، أحكامُ الشريعة بمعانيه منوطة، وأعلام الحقيقة بمبانيه مربوطة.