"أقرأ الآن وجهك تحت ضياء الدموع. وحين يجيء قطار المساء من الغرب أعلن قلبك تذكرة، واعدّ المحطات بين دمي والوطن. يا قطار الحكايا الجميلة، يا قلب أمي، ويا أجمل الغيم فوق جبين بلادي. إن أمي تحاول ألا تروح إلى القبر قبل رجوعي. مرة علمتني على الموت بين يديها، وقالت: إشرب الكأس حين...
"أقرأ الآن وجهك تحت ضياء الدموع. وحين يجيء قطار المساء من الغرب أعلن قلبك تذكرة، واعدّ المحطات بين دمي والوطن. يا قطار الحكايا الجميلة، يا قلب أمي، ويا أجمل الغيم فوق جبين بلادي. إن أمي تحاول ألا تروح إلى القبر قبل رجوعي. مرة علمتني على الموت بين يديها، وقالت: إشرب الكأس حين تصير الحياة مؤامرة فوق صدر الحبيبة، إن بعض الردى للحياة ضريبة. أقتدي طهر منديلها بدمي، وأحاول تحت جدائلها أن أعدّ الشجر. سأصلي لأجمل عينين في وطني، كنت خلفها أتوارى لتعبر خيل الزمان. أنا طفلك الشتوي الذي خطفته بنات الملوك القدامى، وأعطيته كل أسماء آسية وعناوين خلف حدود المكان. نحن لن نزجر الدمع قبل مجيء الصباح، ولنن زخر الريح ما دام في الأرض أغنية بيننا... خلّي هذي الدموع تذكر يوم تجيء المناديل والأمهات لتستقبل العائدين. ولأني ربطت على الجرح منديلها سألوّح يوم الرجوع بقلبي. سوف أجلس في آخر القاطرات لأبصر كل المناديل في وطني، وهي تمسح عنا غبار السنين، ثم آوي إلى قلبها، وأقول: وداعاً لتلك المسافات، يا زمن الحزن والبرد ولِّ".
الأسير الشاعر يكتب، فالكتابة بالنسبة له الوجه الآخر للصراع مع مقبرته والشعر حينها لن يكون ترفاً، إذ كان الشعر سلاحه ضد موته، كان آخر مجزافه، كان يكتب بلا قلم، وبلا ورقة أيضاً، وكانت ذاكرته هي الدفتر والقلم ومخبأ ما يكتب. ولذا اتسمت قصائد الأسير الشاعر بالطول بسبب سيطرة الحالة عليه لفترة طويلة، ودون أن ينفرها منفر، بسبب تشابه الزمن وسكونه الخارجي لديه، فكان الداخلي هو الموجود الوحيد في ليالي أسره الطويلة، كان يكتب، ثم يردد ما يكتب، حتى يتحفر في ذاكرته بشكل نهائي، مكملاً ودون انقطاع الحالة الداخلية التي يجب توفرها باستمرار أثناء كتابة القصيدة، لقد ساعدته الكتابة كثيراً على تبديد كثافة الزمن الأسود، وكان يشعر بفرح غامر عند وضعه لأقلامه الوهمية جانباً، منهياً قصيدة.
كان الأسير الشاعر في عزلته باباً واسعاً لدخول أنين الكون المنبعث من الناي والريح وصدر الإنسان المعذب خارج "حفنة من تراب"، كان وعاء لتلك الأحزان التي جعلت روحه مثل قصبة في مهب الريح. كان وعاء لتلك الأحزان التي جعلت روحه مثل قصبة في مهب الريح. كان الأسير الشاعر وكلما كتب الضياء الذي نفذ من داخله أعانه على سنوات السجن، وجعله يسطر هذه القصائد المغرقة في شفافيتها وفي مصداقيتها.