ينطلق الدكتور "نصير الكعبي" في معالجته لموضوع جدلية الدولة والدين في الفكر الشرقي القديم من تلك المقاربات الذهنية الجاهزة باستمرار بين الأنظمة والقوانين الحاكمة - لجدلية السياسي - الديني بين الواقعين القديم والمعاصر في الشرق، فيرى أن الكثير من المظاهر التي نحياها في مجالات...
ينطلق الدكتور "نصير الكعبي" في معالجته لموضوع جدلية الدولة والدين في الفكر الشرقي القديم من تلك المقاربات الذهنية الجاهزة باستمرار بين الأنظمة والقوانين الحاكمة - لجدلية السياسي - الديني بين الواقعين القديم والمعاصر في الشرق، فيرى أن الكثير من المظاهر التي نحياها في مجالات توظيف السياسي للدين واستثمار الديني للسياسي ما تزال فاعلة ومقلدة أو مقتبسة أو حتى مطورة للعديد من الممارسات الشرقية القديمة.وهنا يتخذ الباحث من النماذج القديمة في الزمان والمكان مادة لبحثه الذي بين أيدينا فيعمد من خلال اختياره لنموذج الدولة الساسانية - إيران العصر الساساني أنموذجاً إلى قراءة وتشريح الحاضر والكشف عن قوانينه وأنظمته عبر أنموذج غير معاصر. فالدولة الساسانية تعد آخر الدول التي حكمت الشرق القديم (224-651م) أخذت من الحضارات الشرقية القديمة وتفاعلت معها وأثرت على نماذج الدول التي اعقبتها، ولا سيما الدولة العربية الإسلامية في العصر العباسي وكانت هناك نتائج للتأثر والتلاقح بين الحضارتين العربية والفارسية في مجالات الحكم وإدارة الدولة وأنظمتها. لم تنل حظها من الدراسة إلى الآن وهذا ما دعا الباحث: إلى الاهتمام بدراسة التاريخ الساساني لأهميته في التنقيب عن صفحات مهمة من تاريخ العراق قبل الإسلام وتتبع مديات التأثر والتفاعل مع الحضارة العربية الإسلامية في العصر العباسي الأول على وجه الخصوص.لأجل ذلك، يعتبر أنمثال الدولة الساسانية "مثالاً نوعياً فموقعها الأفقي (المكاني) والعمودي (الزماني) يضعها موضع الحلقة الوسطى أو الارتكاز ضمن سلسلة أو مسيرة الشرق الطويلة. فمنحها ذلك أفضلية للتمثيل والتعبير بدقة عنه فطريقة تكون هذه الدولة واحتياجاتها تبدو ممثلة لواقعية الشرق.. فهي تأسست في أعقاب انقلاب عسكري في إقليم فارس عام (224م) أدرك مؤسسها أردشير (224-242م) أن منطق القوة وإعطاء الدور الحاكم لرجال الحرب هو أسلوب غير كاف لحفظ الاستقرار والتوازن الداخلي، ومن ثم انتقالها نحو ترسيخ معنى الدولة الإمبراطورية الطامحة إليه. فاحتياجها للدين كان ضرورياً من أجل التسويغ والشرعنة والإسناد (...) ومما ميّز هذه التجربة من غيرها أنها كانت متنوعة في نظامها إذ لم تسر على وتيرة واحدة من حيث متغيراتها وتطوراتها الداخلية، وإنما كانت متغيرة باستمرار".يقسم الباحث هذه الدراسة إلى خمسة فصول، اختص الأول بالدراسة المصدرية الثنائية الدولة والدين في العصر الساساني، يكشف فيه عن منجزات وإضافات الباحثين الإيرانيين والمستشرقين كذلك وعمد إلى تصنيف وإعادة هيكلة المصادر الأولية بما ينسجم مع روحية البحث ومنهجه، فيما تناول كل فصل من الفصول الأربعة المتبقية الدولة والدين من وجهات نظر مختلفة، وكأنما هي محاولة لدراسة الموضوع من جهاته الأربعة. فالفصل الثاني الذي سعى لفهم بنية الدولة الساسانية ومفهومها، عمد أيضاً إلى استيعاب الكيفية التي فكرت بها الدولة بالدين، وكانت هذه وظيفة الفصل الثالث المتعلق بالديانة الجامعة والتبلور الموازي لمفهوم الدولة الإمبراطورية، من وجهة النظر الدينية. وقد عالج الفصل الرابع الجوانب التاريخية الواقعية لحال الائتلاف والتنافر ومسببات ذلك بين الطرفين وآثاره على الفكرة الإمبراطورية التوسعية، فيما كانت مهمة الفصل الخامس والأخير الكشف عن المفاصل التي هيمنت عليها المؤسسة الدينية في المراحل المتأخرة، ثم أردف الباحث هذه الفصول بمجموعة نقاط مثلت حصيلة ختامية لأهم النتائج التي توصلت إليها هذه الدراسة الهامة والجديرة بالاطلاع.