تقف فكرة هذه الدراسة على أساس أن الفكر التربوي قد نضج أول ما نضج في الشرق عامة، وفي منطقتنا خاصة، وذلك في مصر القديمة وبلاد دجلة والفرات وبلاد العرب مهد الرسالات السماوية. ففي منطقتنا نزلت الديانات السماوية الثلاث بتعاليمها، وبقيمها وفكرها التربوي، ورسمت بذلك أهدافاً...
تقف فكرة هذه الدراسة على أساس أن الفكر التربوي قد نضج أول ما نضج في الشرق عامة، وفي منطقتنا خاصة، وذلك في مصر القديمة وبلاد دجلة والفرات وبلاد العرب مهد الرسالات السماوية. ففي منطقتنا نزلت الديانات السماوية الثلاث بتعاليمها، وبقيمها وفكرها التربوي، ورسمت بذلك أهدافاً للبشر وطريقة تنشئتهم وتربيتهم على هذه الأهداف. وهبت مؤثرات هذا الفكر على العالم على فترات متفاوتة من التاريخ. فهبت على الغرب خاصة بلاد اليونان قبل الميلاد بأكثر من خمسة قرون. فتفاعل هذا الفكر هناك مع فكرهم، وأتى مرة ثانية إلى بلاد الشرق حيث تفاعل مع الفكر الشرقي الذي غذته عوامل كثيرة دينية واجتماعية. وكان مكان هذا التفاعل مدينة الإسكندرية بجامعتها ومكتبتها التي أمها التلاميذ من مختلف بلاد العالم الموجودة في ذلك الوقت. ثم عاد هؤلاء الطلاب إلى بلادهم ينشرون العلم والمعرفة وكأنهم يمهدون لحدثين تاريخيين عظيمين في غاية الأهمية: أولهما نزول الديانة المسيحية في منطقتنا العربية لتجد البشرية قد وصلت إلى مرحلة من النضج قابلة لفهمها. وبنشر المسيحية في هذه المنطقة العربية، وبانطلاقها منها إلى شمال أفريقيا وجنوبها وإلى أوربا وآسيا كانت في واقع الأمر تمهد لذلك الحدث الأعظم والأخير في حياة البشرية وهو نزول الدين الإسلامي للبشرية كافة. وهو ذلك الدين الذي حوى فكراً متكاملاً متناسقاً منسجماً في إطار عام حوى كل جزئيات الحياة وما بعد الحياة، ليسرى في أرجاء المعمورة ولتؤمن به كثير من بلاد العالم. حتى أولئك الذين لم يأخذوا به كمسلمين أخذوا به كمبادئ وتشريعات، وأفادوا منه في حياتهم الدنيا، دون أن يشهروا بالقطع إسلامهم. أخذوها بالوعي، وبالوعي، وما هي إلا منه وإليه ترجع. وليس ميثاق عصبة الأمم، وميثاق هيئة الأمم المتحدة، ومواثيق ودساتير العالم المعاصر إلا دليل قاطع على انتشار مبادئ هذا الدين القيم. والباحث في هذا البحث لن يدرس النظم والمؤسسات التربوية في حد ذاتها أو عناصر العملية التربوية لذاتها، وإنما سيشير إليها كلما تطلب الأمر ذلك لتبيان ما وراءها من فكر تربوي، أو لنقاش قضية من قضايا الفكر التربوي في الفترة التي تقوم بدراستها، ولكي يبرز المضمون التربوي الذي تضمنته هذه النظم والمؤسسات وتلك العناصر التربوية. وتبرز كذلك ما تعكسه من اتجاهات اجتماعية سائدة في المجتمع، ومن اتجاهات إدارية، وربما سياسية. إذ أن الاقتصار على دراسة النظم والمؤسسات التربوية دون إبراز ما وراءها من فكر تربوي واجتماعي. ودون نقاش مضمونها التربوي فيه خروج عن خطته في هذا البحث، حول دراسة الفكر التربوي ومساره عبر مراحل التاريخ المختلفة. إذ أنه لا يدرس تاريخ المؤسسات التربوية وإنما يدرس تاريخ التربية، فكراً، وتطبيقاً، في إطار الحضارة التي وجد فيها هذا الفكر وذلك التطبيق.
وهذا المنهج ينطلق من قناعته بأن تاريخ التربية لشعب من الشعوب ليس تاريخاً لمؤسساته التعليمية، وإنما هو في الواقع تاريخ مدنيته كما تبدو في إبداعاته العقلية وأنماطه الأخلاقية والدينية.