لقد تم إختيار الأقاصيص التي يتضمنها هذا الكتاب من مجموعة ألفونس دوديه "رسائل من طاحونتي"، فالكاتب يتطرق فيه إلى مواضيع مختلفة ومتنوعة جداً، ولكننا نجد عنده تفضيلاً لبعض المواضيع التي تتكرر من قصة إلى أخرى، مع تغييرات طفيفة إما في شخصية البطل أو في إطار السرد الروائي، ومن...

لقد تم إختيار الأقاصيص التي يتضمنها هذا الكتاب من مجموعة ألفونس دوديه "رسائل من طاحونتي"، فالكاتب يتطرق فيه إلى مواضيع مختلفة ومتنوعة جداً، ولكننا نجد عنده تفضيلاً لبعض المواضيع التي تتكرر من قصة إلى أخرى، مع تغييرات طفيفة إما في شخصية البطل أو في إطار السرد الروائي، ومن أهمّ هذه المواضيع المتكررة رجل الشارع، والملذات، والطبيعة، ورجال الدين.
لقد أعطى دوديه مكاناً بارزاً لرجل الشارع، أي للإنسان العادي الذي يقبل مصيره وقدره من دون أن يتأفف أو يتذمّر، ومن دون أن يثور ضد البؤس الذي يعيش فيه أو حالة الفقر التي تلازمه.

وإذا كان دوديه يضع الكثير من شخصيته في أقاصيص "الرسائل"، فإنه ينتقي منها جانب الإنسان المرح والحسي والمحب للملذات: فهو يصوّر الحفلات الباريسية الصاخبة التي نجد فيها الثياب الفخمة، والنساء الجميلات، والرجال الجشعين والنهمين الذين يبحثون عن الطعام اللذيذ والشراب السائغ، والمسافرين الذين يثير فضولهم كلُّ ما هو غريب أو جديد، وكذلك الفتيان والشباب الذين يبحثون عن المرح والمجون ويفضلون تمضية أوقاتهم بين أصدقائهم للحديث والقراءة والكتابة.

أما الطبيعة، فإنها تحظى بإهتمام شديد عند دوديه، لدرجة أن كل قصة من أقاصيصه لا تكاد تخلو من وصف لها أو شعور تجاهها، فهو يصورها في كل مظاهرها، إذ نجد عنده الطبيعة المرحة والمضيافة كما نجد الطبيعة القاسية والجاحدة.

لكنه لا يصف الطبيعة لذاتها، فكل اللوحات التي يقدمها لعناصر الطبيعة تأتي من خلال تأثيرها على الشخصية الروائية أو من خلال العواطف التي تنتابها عندما تكون في أحضانها.

فعناصر الطبيعة ذات تأثير ساحر على الإنسان، بالنسبة لدوديه، لذلك نجد أن أقاصيصه لا تعبر فقط عن تفاعل الطبيعة مع الشخصيات أو مع دوديه نفسه، بل تتعدّى ذلك المستوى لتشمل النفس البشرية إلى أي مكان أو زمان انتمت.

من ناحية أخرى، نجد بين الشخصيات التي يصورها دوديه في أقاصيصه عدداً كبيراً من رجال الدين، وموضوع الدين يأتي غالباً عنده في إطارٍ تهكمي وساخر؛ والواقع أنه يندرج في هذا الإتجاه المضاد لرجال الدين لكونه لم يكن مؤمناً ولأنه كان ينتمي إلى هذا التقليد الفلسفي الذي بلغ أوجه على أيدي الفلاسفة والمفكرين في القرن الثامن عشر والذي انتشر بعد ذلك في القرن التاسع عشر في الأدب الفرنسي وخصوصاً في الرواية.