بدا لي وأنا أدرس في كلية اللغة العربية في الأزهر سنة 1935 إلى سنة 1939 أن مطولات البلاغة كما في شروح التلخيص على الخطيب القزويني ومطولات النحو والصرف كالأشموني، إلى سواها من خطوط الأزهر القديم، فكلياته الجديدة، بدا لي أن هذه اللغة التي كانت ناصعة تسطع بالفصاحة والبلاغة،...
بدا لي وأنا أدرس في كلية اللغة العربية في الأزهر سنة 1935 إلى سنة 1939 أن مطولات البلاغة كما في شروح التلخيص على الخطيب القزويني ومطولات النحو والصرف كالأشموني، إلى سواها من خطوط الأزهر القديم، فكلياته الجديدة، بدا لي أن هذه اللغة التي كانت ناصعة تسطع بالفصاحة والبلاغة، والمحسنات البديعية التي كانت مفتحاً لهذا النوع من العبارات الجمالية التي رسمها الشاعر الخليفة عبد الله بن المعتزَ، إنما خرجت دراساتها عن منطوق الفصاحة، والنطق بالعربية كما وردت عباراتها في الجاهلية ومكة المكرمة، وانحرفت البلاغيات إلى مناحي منطقية، فلسفية، غريبة عن صفاء آفاق لغة العرب ذات المناخ المنداح بين الشمس، والرياح، والمدى الفسيح إلى دخول علم النطق في تقعيدها، واشتطّت الدراسات فتشعَبت، وإنداحت في إفتراضات خرجت عن طهارة هذه اللغة التي عندل بها "قدوم بن قادم" والنبي أيوب كما تذكر التوراة، وعبقرت بالشعر الجاهلي، وتألّقت بسماوية القرآن الكريم، وجلال الأدب العربي بشعره ونثره بعد ذلك. إلى ذلك، فاللغة العربية في نظري بكثرة مفرداتها، وقابلياتها لكل وارد، لم تعد في نظري لغة سامية كما أشاع الدارسون والمؤرخون، بل هي في نظري أمّ اللغات التي سميت بالسامية، ومستقاها من جداول هذه اللغة الأمّ، التي هي وحدها الأم بحضورها وغياب ما سمي باللغة الساميّة، والسبب في ذلك أن اللغة العربية كما وردت إلينا تحمل في ألفاظها، وعباراتها إرثاً طويلاً كثيفاً جعلها تزيد بالتجربة، وتعدّد مناخات العيش على كل لغة...
بدا لي أن الزمن مدار كروي للوجود، وأن هذه اللغة حفلت بألفاظ دلالية على الزمان، إلى جانب صرفها ونحوها، وتعقيداته، وبُعده عن نصاعة السليقة الأولى، إلى جانب إدعاء بعض المستشرقين أن اللغة العربية فقيرة في الدلالات الزمنية، إن كثرت الدراسات حول الزمان الوجودي في عصرنا الراهن، فذلك جميعه حدا بي إلى وقوفي موقفاً منصفاً، من جهة، عاملاً على تقنية اللغة من الشوائب الصرفية والنحوية، لتسهيل تدريسها في مدارس الأمم المعاصرة، وليبدو جمالها وجلالها في أفق التألَق.