عندما نقرأ مدائح البحتري ننتقل إلى مناخ البداوة، حيث يبدو الممدوح أحد نبهاء الجاهلية، يوصف بكرمه كالغيث، وبشجاعته كالأسد، وبجماله كالقمر، وبحلمه الواسع كالفضاء، وأن يده بحر، أو غمامة، وساعة نقرأ له وصفه بعض الغلمان ونقف على عمرانياته التي تطوف بالقصور، والآثار الباقية...

عندما نقرأ مدائح البحتري ننتقل إلى مناخ البداوة، حيث يبدو الممدوح أحد نبهاء الجاهلية، يوصف بكرمه كالغيث، وبشجاعته كالأسد، وبجماله كالقمر، وبحلمه الواسع كالفضاء، وأن يده بحر، أو غمامة، وساعة نقرأ له وصفه بعض الغلمان ونقف على عمرانياته التي تطوف بالقصور، والآثار الباقية نشعر أنه نقلنا إلى حضارة عصر المتوكل المترف، أو أنه أسكننا التاريخ.
وهو عدا عن كل ذلك فإنه في كل ما ترك لنا من شطر يتمايز بالعذوبة، والطلاوة، والجزالة فميزة البحتري الأولى في أسلوبه.
اعتمدت في دراستي للبحري على طبعة فاخرة من ديوانه حققها الأستاذ الجهبذ "حسن كامل الصيرفي" وشرحها فجاءت تنم عن إتقان، وجهد جهيد، وسعة إطلاع، فله الشكر من كل قارئ يقدر قيمة كل عمل متقن.
ثم عمدت إلى باب المدح الذي يشكل نصف شعره تقريباً، وفيه معرض لفكر البحتري، وغزله، وفخره، وعتابه، وحكمته، ومعرفته بالأنساب والتاريخ، وبراعته في إثارة الأحقاد القبلية، ورسم الصراع بين الفؤاد إلى دور الإسلام، وانتصارات القواد العباسيين على الخارجين، والبيزنطيين. فهذا الشعر ميدان فكر الشاعر، ومقدار بصره باللغة، والشريعة،والعقائد، ومدى تعاطيه مع كبراء عصره، ومجتمعه.
ولم أتوان عن شرح بعض قصائد المدح، وتسهيل أمر وعيها على القارئ. وبعد أن تناولت أبواب الديوان الأخرى في مختف الموضوعات استوى لي البحتري شاعراً كبيراً من شعراء العربية، وإن كانت مرتبته لا توازي عظمة القمم التي اعتلاها أبو نواس، وأبو تمام، وابن الرومي، والمتنبي.
ربما بدا كلامي على شيء من ظلم الرجل، ولكنني صاحب مزاج، وتعادل، إلى استقلال بعناد، وهذا لا يمنع من أن أستلين للمخالف، والناقد، والكاشف، وحسبي أنني كنت أنا في كل ما أعمل.