إذا كان عشاق الشعر من الخلفاء والأمراء وغيرهم من رجال السلطة الذين كانوا يتلذذون بسماع الشعر ويطربون له قد ذهبوا بذهاب دولتهم العباسية في بغداد، وحلّ مكانهم من يتلذذ بالقهر والغلبة، ويسهر على تدريب الجند، ويعنى بضبط الدخل والخرج من المماليك، فإن الشعراء ظلوا يملأون البلاد...
إذا كان عشاق الشعر من الخلفاء والأمراء وغيرهم من رجال السلطة الذين كانوا يتلذذون بسماع الشعر ويطربون له قد ذهبوا بذهاب دولتهم العباسية في بغداد، وحلّ مكانهم من يتلذذ بالقهر والغلبة، ويسهر على تدريب الجند، ويعنى بضبط الدخل والخرج من المماليك، فإن الشعراء ظلوا يملأون البلاد العربية الإسلامية بعذب صداحهم، وأنين شكواهم. وظلّ الشعراء وسيلة البوح الفضلى، يستخدمها كل طائر غريد. وإذا صحّ ما يقال: إن الشعر قد أفل نجمه في ظل المغول، ولم ينبغ في البلاد التي حكموها من يستحق الذكر، فإن مصر والشام قد حفلتا في ظل المماليك بعدد لا يكاد يحصى من الشعراء الذين أغنوا المكتبة العربية بالعديد من الدواوين الشعرية، التي قدّر بعضها أن ينشر، ولا يزال الكثير منها ينتظر رؤية النور. هذا وقد عني شعراء العصر المملوكي بالغزل عنايتهم بسائر الفنون الأخرى، لكنهم ظلوا ينظمونه في اتجاهاته المعروفة، ويستخدمون معانيه التقليدية المطروقة، فإذا المرأة في شعرهم هي المرأة التي عرفناها في أشعار الجاهليين والأمويين والعباسيين، فهو غزال في مقلتيه وجيده، وهي شمس وبدر وغصن رطيب، رقيقة الجلد، طيبة النشر، لطيفة المعشر، تصل وتصدّ، تقيم وتظعن، وقد تتخذ الإبل مطية، والهودج مجلساً. أما الرجل في غزلهم، فهو وحده العاشق الذي ينفعل ويضطرب، ويمور فيه الإحساس، وتغلي فيه العواطف عند اللقاء أو الوداع. وحديثه عمّن يحب هو حديث المشتهي لوصال، الطامع إلى التلذذ بجسد، من غير التفات إلى عواطف المحبوبة، أو التعبير عما يكويها ويحرقها.
وترسم شعراء هذا العصر خطى أسلافهم في امتداح أنفسهم، والإشادة ببطولاتهم في الحب، نجد ذلك في مثل قول بهاء الدين زهير (ت 656هـ/1258م) مفتخراً بآياته العاطفية، ومعجزاته الغرامية "أنا في الحب صانع المعجزات، جئت للعاشقين بالآيات، كان أهل الغرام قبلي أميين حتى تلقنوا كلماتي، فأنا اليوم صاحب الوقت حقاً والمحبون شيعتي ودعاتي.
وشاعت الخفة والرقة والرشاقة في الغزل المملوكي، واشتد حرص الشعراء على استخدام محاسن البديع كالتورية والاستخدام، وكثر تغزلهم بالألحاظ والعيون التركية الضيقة، كما مال الكثير منهم إلى التغزل بالمذكر حقيقة وممارسة، لا تقليداً ورمزاً، الأمر الذي دفع البهاء زهير إلى توبيخ معاصريه من الشعراء.
واللافت في الغزل المملوكي، شيوع النزعة الحرفية فيه، إذ حالت أوضاع العصر بين الشاعر وحياة الدعة والنعيم، فانصرف إلى السعي والكدح طلباً للرغيف.
هذا غزل العصر المملوكي في بعض ملامحه، فيه تقليد، وفيه أصالة، ولعل أبرز وجوه الأصالة فيه، تلك الومضات الشعورية الخاطفة التي نلمحها في ثنايا قصائدهم، وتلك المحاولات الحيثية لتوليد الجديد من القديم، وما نراه من آثار حرفية مباشرة في كثير من معانيهم وصورهم.
ويشتمل هذا الكتاب على مجموعة غزلية ضخمة تمثل العصر المملوكي بدولتيه: البحرية (648-784هـ/1250-1382م) والبرجية (784-923هـ/1382-1517م) رتبت وفق التسلسل الزمني لوفيات الشعراء، وليس وفقاً لمكانة الشاعر أو جودة القصيدة.