يكاد يطبق الباحثون على أن بديع الزمان الهمذاني هو مبتكر فن المقامة، وأن كتّاب المقامات الذين أتوا بعد البديع اقتفوا آثاره ونسجوا على منواله. والمقامة لغة تعني المجلس، والجماعة من الناس، كما تعني الخطبة أو العظمة أو الرواية التي تلقي في مجتمع الناس. إنها حديث، ولذا نجدها...
يكاد يطبق الباحثون على أن بديع الزمان الهمذاني هو مبتكر فن المقامة، وأن كتّاب المقامات الذين أتوا بعد البديع اقتفوا آثاره ونسجوا على منواله. والمقامة لغة تعني المجلس، والجماعة من الناس، كما تعني الخطبة أو العظمة أو الرواية التي تلقي في مجتمع الناس. إنها حديث، ولذا نجدها تبدأ بهذه العبارة: "حدثنا عيسى بن هشام قال: أو حدثنا الحارث بن همام" الخ... والحديث هو خبر عن شخص من الأشخاص يروي ما تعرض له من أمور وما قام به من أفعال وما تفوّه من أقوال، ومقامات الهمذاني مجموعة أحاديث تخبرنا عن شخص اسمه أبو الفتح الإسكندري، وتتبع ما يقوم به من أعمال وما يتفوّه به من أقوال. وهذا البطل لم يوجد في الحقيقة، وقد حاول الهمذاني الإيهام بأنه شخص حقيقي، فرغم أنه قرشي النسبة إسكندري المنبت، وأنه وأنه … وأنه كان غنياً فانقلب عليه الدهر وغدا فقيراً محتاجاً إلى عطاء الناس. ولذلك تراه يجوب الآفاق متنقلاً من بلد إلى آخر، متنكراً في أزياء مختلفة، متوسلاً للحصول على المال الكدية والحيلة والدهاء وذرابة اللسان، ويبدو أن تلك المقامات إنما هي انعكاس لحالة اجتماعية متردية في زمان الهمذاني كانت تسود إيران، لأن الذين ترجموا له حصروا تنقلاته في إيران فقط، ويبدو أن الفقر كان منيخاً على طبقة واسعة من الشعب، عدا هذه الناحية الاجتماعية نجد في المقامات ناحية أدبية، حيث يصدر أحكاماً نقدية على عدد من الشعراء من مختلف العصور، ونعثر في المقامات على واحدة في علم الكلام هي المقامة المارستانية، حيث نجد مجنوناً ينتقد آراء المعتزلة القائلين بحرية الإنسان ويذهب مذهب الجبرية القائلة أن الإنسان ليس حراً إنما أفعاله من صنع الله. إلى جانب ذلك فإن هذه المقامات حفلت بالوعظ والحكم والحثّ على العلم وكذلك بالمرح.
والموضوع الأخير الذي يلفت الانتباه في هذه المقامات هو الفروسية، وقد قبله محور مقامتين هما المقامة الأسدية والمقامة البشرية. وأما أسلوب المقامات فهو أسلوب التصنع البياني والزخرفة البديعية، وعدا السجع الذي حفلت به فقد حفلت بالتشابيه والاستعارات والمجازات والكنايات والطباق والجناس، وسائر المحسّنات البيانية البديعية. وثمة صفة أخرى تمتاز بها المقامات هي كثرة الكلمات الغربية التي لم تعد مألوفة اليوم، وكثير منها ساقه إليها التسجيع والطباق والجناس وغيرها. أما السمة البارزة فهي الجمع بين النثر والشعر. وقلما تخلو مقامة من عدد من الأبيات التي تنسجم مع موضوع المقامة وسياق الكلام، وغالباً ما تختتم المقامة ببيتين أو أكثر يعبر بها أبو الفتح عن نفسه ومذهبه في الحياة.