في حركة الأمة، كما في فعل الفرد، تلتقي تجارب الماضي، وحاجات الحاضر وأحلام المستقبل لتشكّل بمجموعها الحدث، وتشق لتاريخ البشرية مجراه المتدفق. من هنا تأتي أهمية الوعي الصحيح للتاريخ في بناء حاضر الأمم وترشيد حركتها باتجاه مستقبلها المنشود، ولا سيما هذه الأمة التي شكّل...
في حركة الأمة، كما في فعل الفرد، تلتقي تجارب الماضي، وحاجات الحاضر وأحلام المستقبل لتشكّل بمجموعها الحدث، وتشق لتاريخ البشرية مجراه المتدفق. من هنا تأتي أهمية الوعي الصحيح للتاريخ في بناء حاضر الأمم وترشيد حركتها باتجاه مستقبلها المنشود، ولا سيما هذه الأمة التي شكّل الإسلام هويتها، وكان القوة الدافعة لحركتها ونهضتها والمهيمن على فكرها وحضارتها. ويرى البعض ضرورة إعادة كتابة هذا التاريخ، أو بالأحرى إعادة قراءته، وهو إجماع أسهم في بلورته خللان بارزان: أحدهما: منهجي، يتمثل في اتجاه المؤرخين القدماء في مصنفاتهم إلى التأريخ للسلطة ومؤسساتها الحاكمة فقط، بحيث لا تجد في هذه المصنفات إلا أخبار السلاطين والخلفاء ومن حكم باسمهم من الأمراء والولاة، وما قام به أولئك وهؤلاء من أعمال وحروب، وما شجر بينهم من فتن ومنازعات. أما شؤون الأمة، وأوضاعها المعيشية والاجتماعية والفكرية فقد غفل عنها أولئك المؤرخون، ولا تكاد تجد لهم عنها إلا إشارات عابرة غير مقصودة، وأما الخلل الآخر: فهو يتصل بأمانة وموضوعية بعض مصادر المصنفات التاريخية، من الرواة ونقله الأخبار، وكذلك بعض أصحاب هذه المصنفات أنفسهم تجاه ما ينقلون من وقائع وأخبار على نحو ساقهم تارة إلى الإخفاء أو الاستبعاد، وأخرى إلى المبالغة أو الدرس، وثالثة إلى التزيف والتحوير!
وهذا الكتاب يمثل محاولة كنقد ولإعادة قراءة التاريخ الإسلامي وذلك من خلال سحب المرجعية والأصالة من المراحل التاريخية ورجال التاريخ كافّة، ووضتعها في محلّها الصحيح؛ في الكتاب الكريم والسنّة المطهرة، من قول النبي صلى الله عليه وسلم وتقريراته وسيرته العملية، وكلّ ما وراء هذين المصدرين من مراحل التاريخ ورجاله، فهو موزون بهما، معروض عليهما، محكوم عليه بأحكامهما، ولا يصحّ مجال اعتباره في نفسه مرجعاً تُرجع إليه القضايا التاريخية المتنازع فيها، أو أصلاً تقاس إليه. ولعل هذا الأصل المنهجي الأخير هو أهم ما يميز هذه الدراسة عن غيرها من محاولات الإسلاميين السابقة على طريق التصحيح وإعادة كتابة التاريخ الإسلامي.
ورأى المؤلف اقتصار هذا الكتاب على المرحلة الحاسمة والأكثر حساسية في تاريخ الإسلام والمسلمين، والتي تبتدئ بوفاة الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم وتنتهي بظهور الفرق والمذاهب الرئيسية وتمايزها... وذلك لأن هذه المرحلة هي أصل النزاعات وأم الخلافات الواقعة بين المسلمين وإليها يرجع كل ما تدّعيه الفرق الإسلامية على تعدّدها. وقد قسم المؤلف دراسته على خمسة أبواب: ركز في الأول منها على مجموعة من الإثارات الكبيرة والأرقام الهامة الشاهدة على وقوع الاضطراب الكبير والتناقضات الكثيرة في المصادر التاريخية، سواء ما كان منها مختصاً بتواريخ الفرق والمذاهب وعوامل نشأتها، أو ما كان مختصاً بالتاريخ السياسي والاجتماعي.
وفي الباب الثاني تناول النظرية السياسية عند المسلمين منذ نشأتها، إذ كانت في يومها الأول مفتاحاً للواقع الجديد لمرحلة ما بعد الرسول صلى الله عليه وسلام. وابتداءً من هذا الباب التزم المؤلف عن البديل الصحيح لكل قضية لا تصمد أمام النقد، ولا يسندها البرهان العلميّ.
وتناول في الباب الثالث الحديث عن معالم المسار الجديد؛ سياسيا، ودينياً واجتماعياً، فتجاوز معالم السياسة إلى معالم الحركة الدينية المتمثلة في الموقف من القرآن والسنة والتصور الكامل لدورهما في الحياة السياسية والاجتماعية، وموقع الاجتهاد وتطوره، وإلى معالم الحالة الاجتماعية، وحركة الفتوح الإسلامية.
وانتقل في الباب الرابع إلى مرحلة جديدة مرّ بها التاريخ الإسلامي، تميزت هذه المرحلة بمحاولة الإصلاح والتصحيح لما وقع من أخطاء سياسية أو دينية أو اجتماعية في المرحلة السابقة، وتقويم أي إعوجاج أو انحراف قد طرأ في المسار لإعادة وصله بأصله الأول مع التوقف في أثناء ذلك على الصعوبات التي كانت تواجهها حركة التصحيح، والمشاكل الحادثة في طريقها، ذات الصلة الأكيدة بالمرحلة السابقة.
أما في الباب الخامس والأخير فقد توقف المؤلف عند معالم مرحلة جديدة، هي مرحلة انعطاف خطير في المسار ا