-
/ عربي / USD
منذ زمن بعيد والمعنيون بالهم التاريخي ينتظرون اليد الخيّرة التي تمتد لسخر الطبري الكبير لكي تغربل تلال رواياته، التي تغطي مديات زمنية متطاولة تبدأ بالخليقة، وتطل على بدايات القرن الرابع الهجري، وهي روايات تنطوي على الصحيح والضعيف كما هو معروف.
من هنا، يأتي هذا العمل الذي يعتبر خطوة جزئية، أو ربما (مجازفة) ضرورية، لوضع اليد على الروايات الأكثر قبولاً في هذا السفر العظيم للإمام والمؤرخ الطبري، فما لا يدرك كله لا يترك جلّه، يعرض المحقق في بدايات المجلد الأول من كتابه هذا مقدمة يعالج فيها جملة من الإضاءات، والضوابط والمعايير الضرورية في التمهيد لعمل خطير كهذا، فهو وعلى سبيل المثال يعرف التأريخ، ويستعرض أسباب إهتمام الأمة المسلمة بكتابة التاريخ، ثم يعرج على نشأة التاريخ عند المسلمين، ومدارسه، ثم يمضي لترجمة أهم الإخباريين والمؤرخين، الذين أخذ عنهم الطبري، الثقات منهم وغير الثقات، وهذه مسألة في غاية الأهمية؛ لأنها تضع بين يدي القراء والباحثين واحداً من أهم مفاتيح التعامل مع روايات الطبري.
ويمضي المحقق بعدها لتقديم عرض مركّز عن الطبري نفسه: عصره ونشأته وطلبه للعلم ورحلاته، وأقوال العلماء فيه، وشيوخه، ثم منهجه في التأريخ والنقد الموجه إليه، ورؤيته الإسلامية للتاريخ، ويختم بالشروط والضوابط المنهجية لكتابة التاريخ الإسلامي، دون إغفاله بضع صفحات للحديث عن كتاب تاريخ الطبري: تاريخ الرسل والملوك.
هذا وقد اعتمد المحقق تقسيماً دقيقاً لعرض عمله هذا، بأن أفرد لكل عصر من عصور الإسلام وما قبله مجلداً مستقلاً، فتناول في مجلده الأول (قصص الأنبياء وتاريخ ما قبل البعثة) وتناول في مجلده الثاني (السيرة النبوية)، و(الخلافة الراشدة) في المجلد الثالث، وفي الرابع (الخلافة في عهد الأمويين)، وفي الخامس (الخلافة في عهد العباسيين)، وهو بهذا سيتمكن الباحثين والقراء من الإمساك جيداً بروايات الطبري الصحيحة من كل عصر من العصور.
ولا بد من التأكيد على أن المحقق قد بذل جهداً صعباً في إنتقائه الروايات الأقرب إلى الصحة، من بين حشود الروايات التي يعرضها الطبري بإسنادها عن كل موضوع من الموضوعات، بالإضافة إلى ذلك فإن هو من هذا الكتاب الغنية تعكس جهداً أكثر مشقة من سابقه، ذلك هو تخريج الروايات وفق منهج المحدثين، وبصدق وإخلاص (علماء الرجال) يقف المحقق عند إسناد كل رواية، لكي يبين مدى صحتها وفق معايير الجرح والتعديل.
وثمة ميزة أخرى تكشف عن نفسها في هوامش الكتاب من خلال المضاهاة التي نفذها المحقق بين روايات الطبري وبين ما أورده القرآن الكريم عن هذا النبي أو ذاك، وعن هذه الواقعة التاريخية أو تلك، فيما كان يسدي خدمة بالغة للدراسات المقارنة بين النص القرآني والمصنفات التاريخية.
ويلتقي القارئ في مطلع المجلد الخاص بالخلافة الراشدة بمقدمة يعرض فيها المحقق المنهج الذي اعتمده فيما يتعلق بهذا العصر، الذي لحقه الكثير من الروايات الضعيفة والمدسوسة، وهو جهد ضروري لتقديم صورة أقرب إلى طبيعة ذلك العصر التأسيسي الخطير بمعطياته الخصبة، وإنجازاته الكبرى، وتميزه الفريد.
وأخيراً، يمكن القول بأن المحقق في عمله هذا شق طريقاً صعباً في تمحيصه الروايات التاريخية، معطياً الإشارة لكل مؤرخ جاد يستهدف التحقق بمقاربةٍ أكثر صدقاً لوقائع تاريخنا الإسلامي، ولأكداس الروايات التي تحدثت عنه.
قيّم هذا الكتاب
هل استخدمت هذا المنتج من قبل؟
لا توجد أي مراجعات بعد