إن القارئ العربي لدى قراءته كتاب دومينيك فيدال الذي يميط اللثام عن خطيئة إسرائيل عند ولادة دولتها من خلال أبحاث مؤرخيها الجدد، سيكتشف هذا القارئ إن لم نقل "المؤرخين الجدد"، بالتأكيد سيكتشف خلاصة أبحاثهم بشأن فترة مصيرية من تاريخ المنطقة المعاصرة، شهدت قيام دولة إسرائيل...
إن القارئ العربي لدى قراءته كتاب دومينيك فيدال الذي يميط اللثام عن خطيئة إسرائيل عند ولادة دولتها من خلال أبحاث مؤرخيها الجدد، سيكتشف هذا القارئ إن لم نقل "المؤرخين الجدد"، بالتأكيد سيكتشف خلاصة أبحاثهم بشأن فترة مصيرية من تاريخ المنطقة المعاصرة، شهدت قيام دولة إسرائيل والنكبة الفلسطينية. ولكم ستكون دهشة القارئ كبيرة حين يتبين أن نظرة الباحثين الإسرائيليين إلى بعض الجوانب الجوهرية من هذه المأساة تتوافق والنظرة التي طالما دافع عنها زملاؤهم الفلسطينيون! وهم إنما قاموا بذلك عبر تعمقهم في وثائق الدولة الإسرائيلية ومؤسساتها الرئيسية، والتي وُضِعت في التصرف ابتداء من سنة 1987 بموجب قانون الثلاثين سنة.
إلا أن هذا في الوقت نفسه كان ورقة قوة في يدهم وعاملاً معوقاً، إذ يبدو أنهم يجهلون كلياً تقريباً وثائق الدول العربية، وإن كان يصعب عليهم الوصول إليها، وكذلك الذاكرة الشفهية للفلسطينيين التي يحاول آخرون في أي حال جمعها عن ألسنتهم. والحال أنه بحسب ما يلفت إليه المؤرخ الفلسطيني نور الدين مصالحه "ليس بالضرورة لا حصراً. ولا بصورة أساسية أن تكون كتابة الأحداث والتأريخ على يد المنتصرين". يبقى أن المؤرخين الجدد: بِني موريس وايلان بابِه وآفي شلايم وتوم سيغف وآخرون قد كشفوا الآلاف، لا بل عشرات الآلاف من الوثائق التي تناقض بشكل فادح الترهات الثلاث التي لفقها في تلك الحقبة دافيد بن غوريون وغيره ممن ساروا على طريقه. أولاً أسطورة داود في مواجهة جوليات وذلك يتلخص: 1-في التأكيد على التفوق المتنامي للقوات الإسرائيلية باستثناء المرحلة الوجيزة الممتدة ما بين 15 أيار/مايو و11 حزيران/يونيو 1948، 2-التأييد السياسي من الولايات المتحدة لإسرائيل والدعم الدبلوماسي والعسكري لها من الاتحاد السوفياتي، وأخيراً الضمان الاستراتيجي لإسرائيل المتشكل بسبب الاتفاق السري المعقود في 17 تشرين الثاني/نوفمبر 1947 ما بين غولدامئير وملك الأردن عبد الله. ثانياً: الادعاء القائل أن العرب هم الذين أعاقوا عملية السلام. ثالثاً: وبصورة أساسية، الأسطورة القائلة برحيل الفلسطينيين الطوعي، فما يبينه بِني موريس هو أنه ما من وثيقة في الأرشيف تؤكد الفرضية القائلة بدعوة عربية أو فلسطينية إلى الفرار.
وعلى ضوء ذلك يمكن القول أنه ما من شك في أن القارئ الفلسطيني بصفة خاصة سيرتاح في نهاية المطاف إلى مطالعة هذا الكتاب. فعلى مدى عشرات الأعوام أحس المؤرخون الفلسطينيون أن شعبهم لم يكن ضحية ظلم صهيوني رهيب فحسب، بل كان ضحية ظلامة أخرى ثقافية تضاف إلى ظلامة سنة 1948 جاءت نتيجة خطل معظم روايات الأحداث في إسرائيل وبالتالي في الغرب. فها أن بعض المؤرخين الإسرائيليين يساهمون، بدورهم، عبر الأدلة التي يملكونها في التفتيش عن الحقيقة، وأن صوتهم الذي كان يتعذر سماعه من قبل قد بات مسموعاً الآن. لكن ربما تكون هذه القراءة المعزية بالنسبة إلى المثقف العربي، مزعجة أيضاً. فأن يتحلى هؤلاء الباحثون الإسرائيليون بالشجاعة لتحديد مسؤولية بلدهم في تلك الحقبة عن المأساة التي نشأت، يؤكد ما فيه من روح تنافسية. فإسرائيل، على غرار معظم دول العالم، ليست كتلة متراصة، وإنما هي دولة تشهد تناقضات تزداد حدة، يتواجه فيها اليهود والعرب، الاشكناز والسفارديم، العلمانيون والدينيون، المستفيدون من العولمة وضحاياها من أجل الدفاع عن مصالحهم، وحتى من أجل تحقيق بعض التجانس. وإذا ما كانت الايديولوجيا القومية تسيطر فيها بقوة، وخصوصاً في فترات المواجهة العنيفة، فإن فيها أيضاً خصوماً يفضلون أن يأخذوا بعين الاعتبار مستقبل شعبهم في المدى الطويل والذي لا يمكن فصله عن مستقبل الشعب الفلسطيني.
إن نتائج أبحاث المؤرخين الجدد هذه قد هزت بالتأكيد المجتمع الإسرائيلي، وبالتالي لم يكن مستغرباً أن تنظم ابتداءً من الثمانينات الضربة المعاكسة. فما أن ظهرت مقالات بِني موريس الأولى حتى أثارت جدلاً أذكى ناره المؤرخون "المتشددون سياسياً". وقد ترافق هذا القصف الوقائي الايديولوجي مع بعض الضربات الخسيسة. فبعد أن صرف بِني موريس من منصبه في صحيفة "جيروزاليم بوست" الإنكليزية، كان عليه أن ينتظر سنوات كي يتولى منصباً جامعياً شاءت المصادفة أن يكون في جامعة بن غوريون في بئر السبع. لكن ورثة "الأب المؤسس" للدولة اليهودية راحوا يطالبون، ومن دون جدوى، عميد الجامعة المذكورة بأن يصرف بِني موريس أو أن يغير اسم الجامعة! ذلك بأن في هذه الأثناء كان الجمهور الواسع قد بات شاهداً على المواجهة بشأن طروحات "المؤرخين الجدد".
إن مقاربة المؤرخين الجدد الحقيقة لم تكن مجرد صفحة أضيفت إلى صفحات التاريخ. كلا، فما انكشف للملأ هو بكل بساطة "الخطيئة الأصيلة" لإسرائيل، إذا ما استعدنا فكرة المؤرخ "المتشدد" شبتاي طيف، الذي يرى في أعمال "المؤرخين الجدد" طعناً في شرعية الدولة اليهودية نفسها. وعلى كل هل أن حق الناجين من مجازر الإبادة الهتلرية في العيش بأمان في دولة لهم يلغي حق بنات وأبناء فلسطين في العيش بدورهم بسلام في دولة لهم؟ إن الإجابة عن هذا السؤال تتعلق، طبعاً بالماضي، لكن بالحاضر أيضاً. ذلك بأن الأذى الذي لحق وقتها بالفلسطينيين لا يمكن تعويضه إلا بإعطائهم الحق في إقامة دولتهم ولو بعد خمسين عاماً.
باختصار، يمكن القول بأنه منذ عشرين عاماً، نمت أفكار "المؤرخين الجدد" وسائر الباحثين "ما بعد الصهيونيين"، في المجتمع الإسرائيلي بالوتيرة نفسها التي نمت فيها الأصوات الداعية إلى سلام دائم بين إسرائيل والدولة الفلسطينية المفترض إقامتها في الضفة الغربية وغزة. وأكثر من ذلك أن كلا المنحيين غذّى أحدهما الآخر، طبعاً كون مراجعة التاريخ أعطت المسيرة السلمية كل معناها، وكون هذه الأخيرة في المقابل شرّعت سياسياً طرح المحرمات التاريخية على بساط البحث. فالحمية التي دبت في الرأي العام الإسرائيلي بعد فشل كامب ديفيد لم تلغ بالتأكيد في المدى الطويل الأفكار التي نبتت في الأعوام الأخيرة وذلك بالتحديد بفضل "المؤرخين الجدد".