عبرت السيارة الجسر المعلّق فرأى من ثقب فيها لمعة الشمس على النهر الذي أرسل له شعاعاً حاداً يغشي البصر . ما من مرة رأى النهر بهذا الوضوح يمر شبيهاً بالزمن ، يشق العاصمة ويمضي غير آبه بأوجاعها وهي تُقصف ولا بالقصر يحترق على يمينه . يبتعد القصر ، تبتعد قبته وتماثيله الأربعة ،...
عبرت السيارة الجسر المعلّق فرأى من ثقب فيها لمعة الشمس على النهر الذي أرسل له شعاعاً حاداً يغشي البصر . ما من مرة رأى النهر بهذا الوضوح يمر شبيهاً بالزمن ، يشق العاصمة ويمضي غير آبه بأوجاعها وهي تُقصف ولا بالقصر يحترق على يمينه . يبتعد القصر ، تبتعد قبته وتماثيله الأربعة ، تبتعد أعمدته التي تسند السقوف برؤوس الأسود ، تبتعد أسوده المحنطة التي أهداها له ملوك افريقيا ، تبتعد أسوده الحية التي كان يغذيها من لحم خانوه أو لاكوا سمعة امه . في الممرات وهي تتبادل صوره حين يمر وتكرره بلا نهاية ، تبتعد صالة اللقاءات التي أشرف بنفسه على جعلها ملساء مثل المرايا تعكس صورته من الأسفل علواً حتى السماء ، تبتعد غرفة النوم الدائرية تتوسطها نافورة يهدئ خريرها أعصابه بعد يوم متعب ... يبتعد ، يبتعد وتصعد النيران فيه ... مع ذلك يراوده أمل غامض بالعودة . عليه أن يحافظ على هذا الجسد الذي يتعبه ويناكد إرادته ، وأن يثبت عقله من التشوش الذي حوله وفيه . سيوزع أيامه القادمة بين سلسلة ملاجئ أعدها لأيام سود كهذه ... في كل واحد ينام يوماً أو نصف يوم ، ثم يغادره تاركاً حزمة من نقود لأهل البيت . سيسابق الزمن قبل أن تنتشر السيطرات وتنقطع به الطرق إلى قرية طفولته . أصوات الإنفجارات ورشقات الرصاص المجهولة تقطع عليه خطته فيغيّر الإتجاهات والملاجئ ... يدور ويدور حتى يوشك أن ينسى من أين أتى وإلى أين هو ذاهب .