الكتابة روح الحياة والقراءة فرض عين، واللغة حقّ مشروع من حقوق البشر ومظلّة أمنٍ وأمانٍ للناطقين بها، ابن جني تبصّر فيها "أصواتاً يعبّر بها كلِّ قوم عن أغراضهم".
واللسانيّون لاحظوا أنّ رؤية المرء للعالم محدّدة بالبنية النحويّة والمعجميّة للسان الأوّل الّذي تعلّمه في طفولته، أي اللغة الأمّ التي تتقارب الأرحام على أساسٍ منها، فهي في وعيه عماد الهويّة القوميّة وركيزة المجتمع وناقل معالم الحضارة وحاضن الموروث الثقافيّ.
لا حياة ولا تقدّم للمجتمعات بلا لغة، بلا كتابة، هما خير سبيل لحفظ مظاهر الإِبداع والإبتكار والتجديد، الحقّ في اكتساب اللغة وانتزاع اعتراف الآخر بها منطلقه الحرّيّة في ممارستها، تعويد أولادنا على القراءة والكتابة والمطالعة والتعبير، وتشجيعهم على الإنفتاح على لغات العالم الحيّة وإتقانها تجاوز لعقدة التفاضليّة اللغويّة.
كلّ اللغات سواسية، وعالم اليوم ما عاد أحاديّ اللغة، منغلقاً على فضاء أبجديّته، ومكتفياً بأمجاد اللسان الأوّل، اللغات والمعارف عبرت تخوم الجغرافيا، والتعدّديّات اللغويّة، داخل الدول وخارجها، باتت أمراً واقعاً، أي عوامل إثراء تعبيريّ، ومنافذ للإبداع، ومنصّات للتواصل، وعنواناً للمشاركة الديمقراطيّة والإِنتاج المعرفيّ العامّ بمعانيه الرحبة.
لا خوف على مصائر اللغات القوميّة من هجمة العولمة وطغيان الهيمنة اللغويّة بثقافاتها وأنماط عيشها، ولنتدكّر المقولة الخلدونيّة "غلبة اللغة من غلبة أهلها"، فالتغيّر الدائم قانون طبيعيّ، واللغة، كما يقول أندريه مارتينيه، "تتطوّر لأنّها تشتغل".
عالَمنا شهد عبور اللسان الوطنيّ من ضقاق الثبات إلى فضاءات الحراك، أناسه طوّروا بفعاليّة وظائفه وجوّدوا أساليبه، فعبّر عن مواجعهم في لحظات الصدع والإنقسام، وحقوق الإِنسان اللغويّة ما قصّرت وظيفةً، فكفلت إمكانيّات الإعتراض والإحتجاج السلميّ، وكانت بحقّ منافذ التعبير وقاطرة التغيير.
أنا على يقين أنّ هذا الكتاب سيلقى قبولاً حسناً عند جمهور القرّاء العرب، فيروي نفوساً ظامئةً للتعرّف على جملة مفاهيم لغويّة أساسيّة تذكّرنا بأنّ استراتيجيّات التواصل في عالم اليوم عمادها الإعتراف المتبادل بالتعدّديّات والثنائيّات اللغويّة، والإِقرار بالتنوّع الثقافيّ، والعمل الجادّ على الحفاظ على الأقليّات الّتي أضحت هي ولغاتها مهدّدة بالإندثار والتضييق.
هنيئاً للمكتبة العربيّة بصدور الترجمة العربيّة الوافية من الإِعلان العالميّ لحقوق الإِنسان اللغويّة، والتقدير للمترجمين على عملهما المتقن والمنجز بأسلوب علمي ولغة سلسة ومأنوسة.