أن تقرأ شاعراً أو أدبياً وتُعيد قراءته يعني أن ماكتبه راح بعيداً عن ظواهر الأشياء وحملك في سفر خارجي داخلي، بعيد وقريب، شاق وسهل. يعني أنّه تسلل إلى مكمن الروح فيك وفتح لك كوّة جميلة في جدار الصمت الداخلي، حتى رحت تسترق السمع و تطرب لأنغام تتجاوب فيك، تحملك إلى حيث لا مكان...
أن تقرأ شاعراً أو أدبياً وتُعيد قراءته يعني أن ماكتبه راح بعيداً عن ظواهر الأشياء وحملك في سفر خارجي داخلي، بعيد وقريب، شاق وسهل. يعني أنّه تسلل إلى مكمن الروح فيك وفتح لك كوّة جميلة في جدار الصمت الداخلي، حتى رحت تسترق السمع و تطرب لأنغام تتجاوب فيك، تحملك إلى حيث لا مكان ولا زمان. قلّة هم الشعراء الذين يبحرون بك على متن قصائدهم وأبياتهم إلى أفق الحضور الحقيقيّ الغائب فيك، القابع في دياحير الخضوع والاستسلام لكا هو وباشر وقاتم. فعندما يرفع الشاعر مرساة قلمه ويتجه بعيداً عكس الريح إلى جهة توقظ فيه الحدس؛ يعني أنّه تحرر من عتمة الحياة اليومية وأيقظ فيه روحاً تتردد في كل روح في الكون. ويعني أيضاً أنّه بذل جهداً كبيراً في معاندة الرياح العاتية المتربصة في كل وجهة يدير وجهه صوبها. لكن الإصرار والثبات والإيمان بالوصول واليقين بالنور والسلام الذي ينتظره، يدفعه لمتابعة التجديف، ولابد في النهاية من أن يحطّ قاربه في مرفأ السكينة، فيلقي مرساته مستريحاً من مشقّة السفر والإبحار، هانئاً بحبٍ كبيرٍ، بذل جهداً كبيراً في الوصول إليه. وأنت وعندما تقرأ قصيدة أو بيتاً وترى أمامك عالماً جديداً لم تر عيناك من قبل، ولم يُحيكُهُ خيالك، عالماً تهفو إليه سريرتك، ويهنأ فيه بالك، يكون الشاعر قد طرق باب الجمال، هو بابٌ لا يُفتح إلّا للذين يهتدون في طريقهم على ضوء قنديل يملكه الجميع؛ ولكن قلّة هم الذين يعرفون إضاءة شعلته، هو قنديل الحبّ. هو الحبّ أنار درب كل من وسع قلبُه، فذهب بعيداً حتى راح إلى النور الأعظم. إلى الإله. والمتصوفون هم الذين نذروا حياتهم في سبيل الخطوة بلقاءٍ ولو لحظوي مع الخالق العظيم، فكانوا مثالاً للحب الحقيقي.. فالصوفي والشاعر يذهبان إلى ماهو سرّ الوجود.. وليس بالإمكان تجاهل أن الشاعر في قمة تجربته، يتلاقى مع الصوفي في ما هو معنويّ وروحانيّ. وإلى هذا فإن حديث الباحثة في دراستها هذه عن الشاعرة باسمة بطولي وعن معالم الصوفية في أعمالها، وخاصة موضوع الفناء والبقاء في شعرها؛ أي عن أعلى مراتب الصوفية، فليس للقول إنها شاعرة متصوفة، فهي ليست كذلك بالمعنى الفكري أو الديني للكلمة؛ إلّا أن صفاء الحب وسموّه وتعاليه على المعاني المادية جعل من الحبيب إلاه، ومن الحبّ صلاةً، فسمت التجربة الشعرية عندها إلى مصاف التجربة الصوفية. هذا وإن أول قراءة في هذا البحث لباسمة بطولي كانت في ديوانها "مكللّة بالشوق"، حيث الكلمة تشعّ نوراً، والبيت يحمل عالماً من السحر تمنّ إليه الروح في هذا العصر الذي قلّ فيه الشعر وكثر الشعراء، كما أن الشاعرة في ديوانها هذا تبحر في عمق الصوفية.. وتتلمس زواياها المفعمة بالعبق النوراني، فكان للباحثة، والحال هذه، الإطّلاع على كل أعمالها التي وقع الاختيار عليها لنكون مادة لهذه الدراسة وأعمالها هذه تعني الشعر والرسم، لأنها الشاعرة الرسامة التي تقول بالريشة مُقتقة بكل ألوان الجمال مالم يبُح به قلمها، فإذا أعمالها متكاملة، يُعانق القلم والكلمة الريشة واللون لتسير جميعاً في موكب النور والجمال. وهنا لابد من القول بأن كثيرون هم الذين كتبوا في شعر باسمة بطولي وفنّها. وقد زاد عددهم على المئة والأربعين، بين ناقد وأديب وشاعر. لكن كتاباتهم اقتصرت على مقالات منشورة في الصحف ومجلات أدبية وعربية تحدثوا فيها عن موضوع الحب، مع إشارة بعضهم سريعاً إلى الناحية الصوفية.. ولكن إلى الآن لم يتطرق أحد من الباحثين إلى موضوع الصوفية في أعمال الشاعرة باسمة بطولي بشكل موسّع علميّ وموضوعي، والباحثة في دراستها هذه تحاول كشف الحجاب عن أعلى المحطات الصوفية، الفناء، والبقاء، في شعرها، وعن التسامي والارتقاء في رسمها.. لتسليط الضوء على الجمال الذي يكمن وراءهما. والحديث عن موضوع الصوفية يسند إلى الإحاطة بكل حياة المتصوف للكشف عمّا إذا كان هناك تكامل أم تعارض بين الواقع والعملية الشعرية والفنية، فكان لابد للباحثة من إجراء مقابلة مع الشاعرة الرسّامة قبل البدء بهذه الدراسة، للوصول إلى حقيقة ما إذا كان الأمر يتعلق بصوفية في محض خيال أدبي أو فني؛ أم أن الصوفية عندها تجربة تعيشها على صعيد الحياة اليومية، لتتجلى في أعمال شعرية وفنية. فتكسبها شعراً ورسماً.. كلمات ولوحات..