الثقافة الإنسانيةُ بحرٌ زاخرٌ بالعلوم والمعارف، واسعُ المدى، لا حدود لأبعاده، تلتقي فيه روافدُ الحضارات وأنهرُ الفكر البشريّ، وتتفاعل في ما بينها، لتتوالدَ منها تياراتٌ جديدةٌ، ترسمُ مسارَها حركةُ إمتزاج الشعوب، وقوّةُ إختلاطها.في خضّم هذا التفاعل الحضاري، كان التلاقحُ...
الثقافة الإنسانيةُ بحرٌ زاخرٌ بالعلوم والمعارف، واسعُ المدى، لا حدود لأبعاده، تلتقي فيه روافدُ الحضارات وأنهرُ الفكر البشريّ، وتتفاعل في ما بينها، لتتوالدَ منها تياراتٌ جديدةٌ، ترسمُ مسارَها حركةُ إمتزاج الشعوب، وقوّةُ إختلاطها. في خضّم هذا التفاعل الحضاري، كان التلاقحُ بين الشعبين العربي والفارسي، فقد تواصلا على مرّ التاريخ عبر الحروب والفتوحات أو الهجرة والنزوح، أو الصّلات التجاريّة، إنطلاقاً من رابطة الجوار ووحدة الدّين. ونتجَ عن هذا الإحتكاك الكبير جملةُ تأثيرات، تجلّت في العادات والتقاليد ونُظُم الحياة، والآداب والفنون واللغات، وتفاعلت اللغتان العربية والفارسية، وأفادت كلُّ واحدةٍ من الأخرى، فتطعَّمت بألفاظها ومفرداتها، وتأثّر كلُّ شعبٍ بنتاج الآخر، فترجمه وحاكاهُ، وأخصبَ أدبَه بهذا اللّقاح الّذي أنبَت آداباً مُهمَّةً على مستوى الفكر العالمي. واللغةُ وعاءُ الفكرِ ووسيلتُه للتعبير عن الطّاقات المعرفية، تتفاعلُ مع أوتار الرّوح، وتنقلُ بصدقٍ مكنوناتٍ النّفس ودخائلها، وهي ثمرةُ هذا التلاقح الحضاري، كما هو الحال مع اللغة الفارسية الّتي أثبتتْ قدرتها في تاريخ الفكر. والفارسيةُ هي اللغة الإسلامية الثانيةُ بعد العربية، وإن انتمت في نشأتها إلى مجموعة اللغات الهندو - أوروبية، لكنّها اتّخذت الخطّ العربي شكلاً لرموزها، بعد دخول الإسلام إلى إيران، وأصبحتُ تُكتَبُ من اليمين إلى اليسار، وهي لغة إيران اليوم، يتكلّم بها أكثرُ من مئةِ مليون، ينتشرون في مناطق متعدّدة، على رقعةٍ جغرافيةٍ تمتدُّ من أقصى الهند إلى آسيا الصُّغرى، ومن تركستان إلى المحيط الهندي، وقد نبغ فيها أعلامٌ كبار، حظوا بشهرةٍ واسعةٍ، لما قدّموه من آثار فكرية فلسفية وأدبية، أمثال الخيَّام والفردوسي وسعدي وحافظ، وغيرهم من الَّذين برزوا في مختلف ميادين المعرفة الإنسانية. من هذا المنطلق كان موضوع بحثنا "اللغة الفارسية في نشأتها وتاريخ تطوّرها وأشهر شعرائها"، في محاولةٍ لتسليط الضوء على تاريخ هذه اللغة ولهجاتها، وتطوّرها عبر العصور، وارتباطها الوثيق بالعربية، والكشف عن المعاني الأخلاقية والقيم الإنسانية في نتاج بعض شعرائها.